الآثار الاستراتيجية لتفجر الاختراع وزيادة الإبداع

نواصل وضع أصابعنا على الظواهر الحاكمة، وهي تلك التي تتيح لمالكها الثروة ثم السلطة والسيطرة والهيمنة ومن ثم يصبح المتحكم فيها متحكما في عالمنا، نناقش اليوم ظاهرة إطلاق طاقات الإبداع وانفجار الاختراع في أنحاء المعمورة كافة، وهذا نتاج طبيعي لحركة العلم وزيادة المعرفة والمشاركة الإنسانية في محاولة تحسين ظروف الحياة.
ولا يختلف اثنان على أن القرن الـ 20 ومن بعده الـ 21 قد بلغا بالمخترعات آفاقا بعيدة، ففي عام 1843 وقف رئيس منظمة براءة الاختراع في الولايات المتحدة ليقول ''إننا نقترب من مرحلة نهاية التطور العلمي للإنسان''، وهو فكر يقترب من الفكرة الجغرافية بأن شواطئ أوروبا وإفريقيا الغربية كانت تمثل نهاية العالم حتى اكتشاف ماجلان وأمريكو فيسبوتشي وكريستوفر كولومبس العالم الجديد، ولا ندري كم من البشر صدق رئيس هذه المنظمة، إذ لا يمكن أن نتنبأ بما حدث من انهمار المخترعات وتدفقها مع بداية القرن الـ 20. ويرى خبراء الاستراتيجية أن الخلط بين الحرب والعقائد والصراع بين الرأسمالية والشيوعية دفع الإنسان إلى تخطي الحواجز كافة، وبدأ السباق الرهيب في الميادين كافة، فالسباق للحصول على المعلومات السياسية أدى إلى اختراع الحاسبات الإلكترونية العملاقة، والسباق من أجل تملك أعلى وأكبر قوة وتهديد وتجنب أي هجوم أدى إلى اختراع الأسلحة النووية، والسباق من أجل تشغيل المصانع العملاقة أدى إلى بناء محطات طاقة نووية، والرغبة لدى كل طرف في إثبات تفوقه أدى إلى هبوط الإنسان على القمر، وبانتهاء هذه الحقبة أصبح لدينا كمبيوترات عملاقة، وأسلحة بالغة التطور ومولدات طاقة عملاقة ومركبات فضائية، وتولت أمريكا قيادة العالم إلى ثورة الإنترنت وثورة الاتصالات وانتشار وقوة وسائل الإعلام، وقد أدى كل ذلك إلى موجة رخاء وانطلاق وتفوق للإنترنت عام 2000، وهكذا دخلنا القرن الـ 21 وبحوزتنا أساسيات التقنيات المتطورة التي ستمكن العالم من إحداث الاختراق الأعظم، وأسفرت هذه التقنيات عن ثلاثة اكتشافات جبارة هي:
ـ شفرة الجينات.
ـ مكونات وشفرة الذرة.
ـ تقنية النانو الخاصة بالمادة، (النانو أي الضئيل جدا جدا) أو تقنية المادة
متناهية الصغر (النانونية) Nano Code Of Matter.
ولم يحدث في تاريخ البشرية أن وصلنا إلى هذه الطاقة الابتكارية الهائلة، كما لم يحدث أن منظومة القيم الروحية والأخلاقية والمعنوية التي نعيش بها أصبحت مرتطمة مع المخاطر الكثيرة المحيطة والمحدقة بنا التي حاصرتنا نتيجة اختراعاتنا، وهكذا فنحن نقف على طرفي نقيض نحن نقف على أعتاب عصر العلم المتناهي أو عصر الدمار الشامل، وقد أسفر انشغالنا واهتمامنا بالمخترعات وتشجيع الابتكار والإبداع، وإجزال العطاء لأصحاب الأفكار الجديدة عن ضرورة تغذية هذه النزعة بمزيد من الآلات والماكينات والمعدات والأجهزة إلى جانب المهارات، وهكذا أصبحت هذه الحقبة حقبة ''أقطاب وعمال المعرفة والدراية''، وكان دور هؤلاء تغيير المادة عبر المعرفة المتخصصة، وكان من المقرر أن يؤدي بنا ذلك إلى مزيد من الرخاء.
وخلال القرن الـ 20 نتج عن ظهور أمريكا كقوة عظمى وعن تجارتها مع حلفائها بروز أكبر بنك للأصول المعرفية، وهناك توجد حقوق العلماء وبراءة اختراعاتهم، ونتيجة لذلك جاء اليابانيون للمشاركة الفاعلة في الأعمال بطول العالم وعرضه، خاصة إبان فترة الثمانينيات، أما آخر عقدين في القرن الـ 20 فكانا فترة الصين والهند اللتان شاركتا بقوة، وهناك أرقام تقريبية تقول إن هناك 200 ألف مهندس صيني تخرجوا عام 2000 وحده، وهؤلاء تخرجوا في الكليات الفنية والمعاهد المتخصصة وكليات الهندسة، وبعد سنوات قليلة ارتفع العدد إلى 300 ألف و400 لكل من الدولتين (الهند والصين) وأصبح كل بلد منهما قادرا على تخريج ثلاثة أضعاف المهندسين الذين تخرجهم الولايات المتحدة، وبإحصائيات وتقديرات المال كان أجر مهندس الصين والهند بين عُشر وربع أجر المهندس الأمريكي، وقد أغلقت دول أوروبية كثيرة أقسام الهندسة وتراجعت بشدة في مجال سباق المواهب الهندسية، وفي مطلع القرن الـ 21 بدأ الأمريكيون يفقدون الثقة بقدرتهم على منافسة المهندسين الآسيويين كما وتكلفة، وبدأت مشاركة الهند والصين تبرز كتهديد للرخاء الأمريكي، ونسي كثير من الأمريكيين أنهم يتفوقون بشدة في مجال الهندسة والتكنولوجيا، وأنهم أكبر بنك للعقول والمخترعات، إن عصرنا قدم لنا أعدادا غير مسبوقة من المواهب البشرية، ولم يكن لدينا في أي وقت مضى تلك القدرة العاتية على توظيف هذه المواهب في التجارة والمعارك التجارية، وهكذا فإننا نقف على أطراف النقيضين: نقف على حافة عصر المعرفة والعاملين فيها وعصر معركة الاقتصادات القائمة على المعرفة.
وهناك نقطة مهمة هنا وهي بدء مشاركة الدول الفقيرة، إذ إنه بعد الحرب العالمية الثانية تبدل التركيز من الحرب الصريحة إلى الدعاية والحروب الاقتصادية، لقد بدأ عهد بناء الجامعات والمؤسسات ووكالات الاستخبارات والجيوش، وتنافس الأمريكيون والروس لكسب العقول واستخلاص القوة وبنائها وتحقيق الثروة، وانتصرت أمريكا في معركتها ضد الشيوعية وخرج اقتصاد السوق منتصرا وجاءت أيديولوجية الرأسمالية تزأر وحيدة في أرجاء العالم بلا منافس تحت ستار العولمة والديمقراطية والتجارة الحرة، وفهم الهنود والصينيون اللعبة ودخلوا فيها وظهرت مجموعة ''بريك'' البرازيل وروسيا والهند والصين، وأصبح دور المنتصر السابق (الولايات المتحدة) هو حماية نفسها، وذلك في الوقت الذي بلغ فيه أصول ست مؤسسات عملاقة يساوي دخل 30 دولة تمثل 50 في المائة من سكان العالم.
إن قدرتنا على تحقيق الاكتشافات العلمية وتخطي العقبات وإطلاق الاختراع والإنتاج أصبحت هائلة، وفي مطلع القرن الـ 21 ومع بروز شهية الهنود والصينيين على الاستمتاع بالاستهلاك جاءت فكرة إدخال إفريقيا في ثورة الرخاء، وهناك توجه لعولمة العلماء أي أن يعملوا في مناطق العالم كافة، والرسالة الموجهة للفقراء هي إن العقائد هشة في عالم الاقتصاد وستحكمه ''المصالح الشخصية'' في النهاية، وكما أثبت التاريخ دائما أن الناجح يرفع يده ويواصل المسيرة، وهكذا فنحن نقف أمام نقيضين مرة أخرى، نقف على أعتاب عصر الرخاء العالمي أو عصر المصالح الشخصية والحمائية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي