التغيير القادم في إيران

ما يجري اليوم من صراع مفتوح ومستمر وواسع ما بين فريقي المحافظين والإصلاحيين في إيران على خلفية نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ليس مجرد حالة شغب وردة فعل غاضبة من قبل الإصلاحيين على نتائجها التي يرونها قد زورت، بينما يعتبر المحافظون فوزهم فيها تأكيدا لأحقيتهم في تمثيل الغالبية الشعبية، بل هو نتاج لتراكمات منذ قيام ما عرف بالثورة الإسلامية التي أسقطت نظام الشاه عام 1989م، فهناك جزء من الشارع الإيراني يرى أن الثورة استولي عليها من قبل فئة من الملالي مارسوا من خلالها سلطة دينية مذهبية باسم أئمة غائبين مثلتها «ولاية فقيه» ابتدعها الإمام الخميني تعطي من يتولاها مميزات الولاية الدينية المطلقة، إلا أن هذه الولاية المطلقة وجدت معارضة حتى من داخل النظام، ومن فئة الملالي مثل آية الله حسين منتظري الذي تولى منصب نائب الإمام وقتها، حين طالب بتحديد صلاحيات ومدة منصب ولاية الفقيه وأن يكون اختياره بالانتخاب، وهو ما أدى بالإمام الخميني لعزله وفرض الإقامة الجبرية عليه حتى وفاته قبل أسابيع.
ما أقلق ويقلق المحافظين اليوم من حركة الإصلاحيين، هو أن لها امتدادا تاريخيا برفض استبدال سلطة الشاه المطلقة، بسلطة ولاية فقيه مطلقة هي الأخرى، وفي هذا الاحتضان الشعبي الواسع لها في إصرار مؤيديها على الاستمرار والاستعداد للمواجهة ودفع الثمن بما يذكر بثورة الشعب على سلطة الشاه وإسقاطه، ولهذا حاول المحافظون مواجهة هذا المد الإصلاحي بإلصاق تهم اللاوطنية بزعماء الإصلاحيين، تارة بالعمالة للخارج، وتارة أخرى بالعداء للثورة وافتعال حرق صور للإمام الخميني لاستثارة المشاعر ضدهم، وتارة ثالثة – وهذه أسخف تهمة، باتهام سفارات أجنبية ومنها السفارة السعودية بطهران بمد الإصلاحيين بالمال، إلا أن كل هذه المحاولات فشلت وارتدت عليهم، خصوصا أن هناك معطيات تدحض كل هذه التهم، ومنها أن حركة الإصلاحيين نابعة من عمق الداخل الإيراني ومن رحم نظام الثورة، فمير حسين موسوي ليس شخصية نكرة، بل هو إحدى الزعامات المعروفة والذي سبق له تولي منصب رئيس الوزراء والرجل الثاني في النظام على مدى سبعة أعوام أثناء وجود الإمام الخميني، والشيخ مهدي كروبي تولى منصب رئيس البرلمان لسنوات عدة، ويتولى حاليا مسؤولية أهم وأكبر مؤسسة اجتماعية وهي مؤسسة «الشهيد»، إضافة إلى عديد من الشخصيات البارزة مثل الرئيس السابق أحمد خاتمي، وقيادات سياسية كإبراهيم يزدي أول وزير خارجية للثورة، وقيادات دينية مثل آية الله يوسف صانعي والذي جردوه من صفته الدينية أخيرا، وهذا يعني أن اتهام قيادات الإصلاحيين بالعمالة والارتهان للخارج، يعكس إسفاف وإفلاس النظام في مواجهة مد الإصلاحيين، ومحاولة يائسة تكشف بأن النظام بتركيبته الحالية ويمثلها مرشد أعلى بسلطات مطلقة، ورئيس جمهورية مثير للجدل داخليا وخارجيا، تواجه مأزقا وهو يرى جزءا مؤثرا من الشارع يؤيد الإصلاحيين في تعبير عن فقدان الثقة بهذا النظام ورموزه، وفي سعي لاستعادة الثورة من يد فئة ملالي قادوا إيران لصراعات إقليمية ودولية لا طائل من ورائها.
البعد الآخر والمهم في «ثورة» الإصلاحيين يتعدى وصفها بصراع سياسي على السلطة، بل صراع ما بين فكري عصري مستنير، وفكرة متزمت مغلق مذهبيا، ففكر الإصلاحيين قائم على إخراج إيران من ارتهانها لإطار مذهبي ضيق يمثله حكم محافظ قصر أهداف الثورة في التمذهب الضيق والصارم، وما نتج عنه من حصر التعبير عنها بممارسات مذهبية باسم الدين تولد حزازيات مع أغلبية العالم الإسلامي السني، وهي ممارسات لا تعبر عن تطلعات الأجيال الجديدة لسعة الحياة المعاصرة، كونها قائمة على استدعاء موروثات من غياهب تاريخ لا تخدم مطالب تحديث في الرؤى والأفكار لبناء مجتمع حديث فكرا وعقلا ودينا وعصرا، واستعاضت عن ذلك بفرض احتفاليات مذهبية توصف بالدروشة وتغيب العقل والارتهان للأسطورة، حتى لا يلتفت الشعب الإيراني لمتطلباته المعاصرة من ناحية، وليبقى أسيرا لتعاليمها وتوجيهاتها باسم دين ومذهب من ناحية أخرى.
ما يبدو من مجريات الأحداث وتصاعد الصدام مع الإصلاحيين، أن الأمور ستمضي لما هو أبعد، فالإصلاحيون يشتد عودهم وإصرارهم يوما بعد يوم، ويوفر لهم الزخم الشعبي دعما مهما، ولهذا فإن المحافظين يجدون أنفسهم في وضع بالغ الصعوبة والتعقيد، فترك الأمور تتصاعد سيقوي من حدة الإصلاحيين خصوصا أن أطروحاتهم تجد قبولا واسعا ومواجهتهم بالقوة والعنف ستؤدي لصدام مع جزء واسع من الشعب الإيراني، وخطورة ذلك هو أنه سيعيد للصورة مواجهة سلطة الشاه للشعب والتي انتهت بسقوطه، وهذا يعني أن موجة الإصلاحيين ستتصاعد، خصوصا أنهم يحملون رؤية تغيير جوهري وعميق سوف يغير من وجه وصورة إيران الحالية من دولة دينية مذهبية متزمتة، إلى دولة عصرية منفتحة تتعامل معه بلغة العصر، لا بلغة أثرية مليئة بالدم والأحقاد والثأر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي