الدبلوماسية الجديدة في ترسانة القوة الذكية
كان عالم سياسات القوة التقليدي يدور عادة حول القوة الاقتصادية والعسكرية، وحول تحديد القوة التي ستكون لها الغلبة بين القوى المختلفة. أما في عصر المعلومات اليوم فقد باتت ''رواية'' كل طرف للواقع تشكل أحد أهم عناصر الفوز.
الواقع أن السرد الوطني يُعَد نوعاً من العُملة أشبه بالعملة النقدية. فالحكومات تتنافس فيما بينها وكذلك مع منظمات أخرى بهدف تعزيز مصداقيتها وإضعاف مصداقية خصومها. ومن الشواهد على ذلك تلك المنافسة التي نشأت بين الحكومة والمحتجين في أعقاب الانتخابات الإيرانية في حزيران (يونيو) 2009، حيث لعبت شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) وشركة تويتر أدواراً بالغة الأهمية، أو الجدال الذي نشب أخيرا بين شركة جوجل والصين.
لا شك أن السمعة كانت تشكل دوماً أهمية كبرى في عالم السياسة، ولكن المصداقية اكتسبت أهميتها البالغة من ''مفارقة الوفرة''. فحين تتوافر المعلومات يصبح الانتباه والإصغاء من الموارد النادرة المهمة. وفي ظل الظروف الجديدة أثبت السرد الناعم أكثر من أي وقت مضى أنه أكثر فاعلية من السرد العنيف.
على سبيل المثال، كان الاستقلال النسبي الذي تتمتع به شبكة الـ ''بي بي سي''، والذي يشكل في بعض الأحيان مصدر انزعاج للحكومات البريطانية، سبباً في تحقيق مكاسب جمة فيما يتصل بالمصداقية، كما اتضح من تلك الرواية عن يوم الرئيس التنزاني جاكايا كيكويتي الذي ''يستيقظ عند الفجر، ثم يستمع إلى الـ ''بي بي سي''، ثم يتصفح الصحافة التنزانية''.
إن المتشككين الذين يتعاملون مع مصطلح ''الدبلوماسية العامة'' باعتباره مجرد كناية عن الدعاية لا يدركون المغزى الحقيقي منها. فالدعاية البسيطة تكون هدّامة حين نتعامل معها باعتبارها دبلوماسية عامة. ولا نستطيع أيضاً أن نعد الدبلوماسية العامة مجرد حملة علاقات عامة. وتشتمل الدبلوماسية العامة أيضاً على بناء العلاقات الطويلة الأجل القادرة على إيجاد البيئة المواتية للسياسات الحكومية.
إن إسهام المعلومات الحكومية المباشرة في العلاقات الثقافية طويلة الأجل تتباين طبقاً لثلاثة أبعاد أو مراحل من الدبلوماسية العامة، ولا يقل أي بعد من هذه الأبعاد الثلاثة أهمية عن غيره. وتشكل الاتصالات اليومية البعد الأول والأكثر مباشرة، والذي يشتمل على شرح سياق قرارات السياسة الداخلية والخارجية. كما يشتمل هذا البعد على الإعداد للتعامل مع الأزمات. ففي حالة حدوث خواء في المعلومات بعد وقوع حدث يسارع آخرون إلى سد الفراغ.
والبعد الثاني هو الاتصالات الاستراتيجية، التي تعمل على تنمية مجموعة من الموضوعات البسيطة، كما هي الحال مع الحملات السياسية أو الإعلانية. وفي حين يُقاس البعد الأول بالساعات والأيام، فإن البعد الثاني يستغرق عدة أسابيع، أو أشهر، أو حتى سنوات.
أما البعد الثالث للدبلوماسية العامة فيتلخص في تنمية العلاقات الدائمة مع أفراد أساسيين على مدى سنوات أو حتى عقود عديدة، وذلك من خلال المنح الدراسية، واتفاقيات التبادل، والبرامج التدريبية، والحلقات الدراسية، والمؤتمرات، والوصول إلى القنوات الإعلامية. وهذه البرامج تعمل على تنمية ما أطلق عليه الصحافي الأمريكي إدوارد ر. مورو ''الأقدام الثلاثة الحاسمة الأخيرة'' ـ الاتصالات المباشرة، إلى جانب تعزيز المصداقية كنتيجة للتبادل.
ولكن حتى أفضل الإعلانات تعجز عن بيع منتج لا يحظى بالشعبية. ولا يمكن لاستراتيجية الاتصالات أن تعمل بنجاح إذا ما اصطدمت بالمزاج السياسي السائد. إن الأفعال أعلى صوتاً من الأقوال. وكثيراً ما يتعامل صناع القرار السياسي مع الدبلوماسية العامة وكأنها ضماده يمكن استخدامها بعد وقوع الضرر نتيجة لاستخدام أدوات أخرى. على سبيل المثال، حاولت الصين تعزيز قوتها الناعمة من خلال إدارتها الناجحة للألعاب الأوليمبية في عام 2008، ولكن الإجراءات الصارمة التي فرضتها على التبت في التوقيت نفسه ـ وما تلا ذلك من عمليات القمع في شينشيانج واعتقال المحامين العاملين في مجال حقوق الإنسان ـ كانت سبباً في تقويض المكاسب التي حققتها.
إن القوى العظمى تحاول استخدام الثقافة والسرد في خلق القوة الناعمة القادرة على تعزيز مصالحها، ولكنها لا تفهم كيف تفعل ذلك تحت كل الظروف. ويشكو المنتقدون في الولايات المتحدة من أن الإفراط في عسكرة السياسة الخارجية يؤدي إلى تقويض مصداقيتها. وهم بدلاً من ذلك يؤيدون الدبلوماسية التي ''تتغذى على المنشطات''، والتي يشرف على إدارتها دبلوماسيون مدربون على استخدام الوسائط الإعلامية الجديدة، والاتصال بين الثقافات، والاستفادة من المعارف المحلية الدقيقة، وإقامة شبكات الاتصال بالمجموعات ذات التمثيل المنقوص.
وما زال التوجه القائم على تركيز الإعلام الجماهيري يلعب دوراً بالغ الأهمية. فالحكومات تحتاج إلى تصحيح التحريفات اليومية لسياساتها، فضلاً عن محاولة بث رسالة استراتيجية أطول أجلاً. والقوة الأساسية الكامنة في توجه الإعلام الجماهيري تتلخص في قدرته على توليد الوعي العام ووضع الأجندات. ولكن نقطة ضعف هذا التوجه تكمن في عجزه عن التأثير على كيفية تلقي الرسالة في البيئات الثقافية المختلفة. فالجهة المرسلة تعرف ماذا تقول، ولكنها لا تضمن دوماً ما يسمعه المتلقي. وذلك لأن الحواجز الثقافية تميل إلى تشويه الرسالة لدى المتلقي.
ومن ناحية أخرى، فإن الاتصالات الشبكية قادرة على الاستفادة من الاتصالات ذات الاتجاهين والعلاقات بين الأقران في التغلب على الفوارق الثقافية. وهذا الشكل من أشكال المرونة والتخلص من المركزية يصعب على الحكومات تحقيقه، وذلك نظراً لبنيتها القائمة على المساءلة المركزية.
والواقع أن المرونة التي تتسم بها المنظمات غير الحكومية في استخدام الشبكات أدت إلى نشوء ما يسميه البعض ''الدبلوماسية العامة الجديدة''، والتي لم تعد مقتصرة على بث الرسائل، وتنظيم حملات الترويج، أو حتى الاتصالات الحكومية المباشرة بالمسؤولين الأجانب الذين يخدمون أغراض السياسة الخارجية. فالأمر يتعلق أيضاً ببناء العلاقات مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني في بلدان أخرى وتيسير إنشاء الشبكات بين الأطراف غير الحكومية في الداخل والخارج.
وطبقاً لهذا النهج في التعامل مع الدبلوماسية العامة فإن السياسة الحكومية تهدف إلى تعزيز وتشجيع إنشاء مثل هذه الشبكات عبر الحدود والمشاركة فيها بدلاً من فرض السيطرة عليها. والواقع أن الإفراط في فرض السيطرة الحكومية، أو حتى الظهور بهذا المظهر، من شأنه أن يقوض المصداقية التي يفترض في تصميم هذه الشبكات أن يولدها. والواقع أن تطور الدبلوماسية العامة، من الاتصال من طرف واحد إلى الحوار ذي الاتجاهين، جعلها تتعامل مع عامة الناس باعتبارهم مشاركين في خلق الاتصالات وتحقيق المغزى منها.
إن القوة في عصر المعلومات العالمية، ستشتمل على بُعد جاذب أيضاً إلى جانب الأبعاد الصارمة المتمثلة في القسر وسداد الثمن. ونستطيع أن نطلق على الجمع بين هذه الأبعاد بشكل فعّال ''القوة الذكية''. على سبيل المثال، يدور الكفاح الحالي ضد الإرهاب الدولي حول الفوز بالقلوب والعقول، ولا شك أن الاعتماد على القوة الصارمة وحدها ليس الطريق إلى إحراز النجاح في هذا السياق.
إن الدبلوماسية العامة تشكل أداة مهمة في ترسانة القوة الذكية، ولكن الدبلوماسية العامة الذكية تتطلب فهماً سليماً للمصداقية، والنقد الذاتي، ودور المجتمع المدني في توليد القوة الناعمة. وإذا ما هبطت الدبلوماسية العامة إلى مستوى الدعاية، فإنها لن تفشل في الإقناع فحسب، بل إنها قد تقوض القوة الناعمة أيضاً. لذا فإن الدبلوماسية العامة لا بد وأن تظل قائمة على عملية ذات اتجاهين، وذلك لأن القوة الناعمة تعتمد في المقام الأول على فهم عقول الآخرين واستيعاب مفاهيمهم.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org