الإفساد في الأرض والإفساد في الفضاء

عمارة الأرض طبيعة بشرية, ومنذ أن استخلف الله تعالى الإنسان فيها وهو يبني ويطور ويخترع. والإفساد في الأرض صنيعة بشرية أيضا, فلم يفعل أي كائن حي على هذه الأرض ما فعله الإنسان وهو الذي يتمتع بالعقل والتطور على خلاف غيره من مخلوقات الله في هذه المعمورة.
هكذا كنت أتأمل صنيع الإنسان وأنا أتابع ما حل بمدينة جدة يوم الثامن من شهر ذي الحجة من العام الماضي, فهي أم الكوارث التي لم تعرف بلادنا كارثة بحجمها منذ أن وحد الملك البطل عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ رحمه الله ـ هذه البلاد. تلك الكارثة وإن كانت قدرا مقدورا من رب السماوات والأرض نؤمن به ونسلم بحكمته التي يدركها - سبحانه وتعالى - ولا ندركها, إلا أن المؤشرات والدلائل تؤكد أنها بسبب الفساد الذي ظهر في البر والبحر بما فعل الناس, كما جاء في الآية الكريمة «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون» الروم ـ الآية: 41.
وهكذا فعلت أيدي الناس في أودية جدة حينما باعوا بطون الأودية ومجاري السيول للبسطاء الأبرياء الذين كانوا يحلمون بسقف آمن يظلهم وفلذات أكبادهم, ويرسمون تحته آمالهم وأحلامهم وأمانيهم, فلم يكونوا يعلمون أن تلك المنازل وكأنها بنيت على ورق لتبتل بسيول لا قبل لهم بها لتهوي بهم إلى المجهول, وتذوب الأماني والأحلام في سيل لا يعرف إلا طريقه ولا يسمع إلا هديره.
لقد وقف الملك الإنسان خادم الحرمين الشريفين وقفة القائد الشجاع ووعد بالعقاب العسير لكل من تثبت إدانته فيما حل بأهلنا في جدة, أو كانت له علاقة بأي فساد مالي أو إداري تسبب في هذه الكارثة, هكذا تكون المسؤولية المنضبطة بعدالة المحاكمة دون أن يكون هناك كبش فداء أو استهلاك إعلامي يمتص الغضب ويدفن الحقائق.
وبما أن الحديث عن الفساد فإن له أنواعا ومشارب وجباة يجنون من ورائه كثيرا من المكاسب.
إن المفسدين عبر الفضاء نماذج أخرى من هذا الفساد الذي لا ينكشف بسيل أو بعواصف لأنه يفسد العقول ويدمر القيم والأخلاق, ويهدم قيم الولاء وينشر الميوعة والتحلل والانحراف. إنه الاستثمار في الفضاء بقنوات تلفزيونية لا غاية له إلا الثراء, ويبدو أن أصحاب هذا الاستثمار يمضون في غاياتهم متجاهلين النتائج المدمرة لقيم المجتمع المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف. لقد أصبح الفضاء العربي ملوثا بقنوات تبث الانحلال ويمتلكها أناس من أبناء جلدتنا يتاجرون بأخلاق الجيل وقيم المجتمع .. هكذا أصبح وأمسى حال الفضاء بارات وحوانيت لبيع الفساد, يقتحم المنازل والاستراحات والمقاهي ليذهب خراج هذا الإفساد إلى أصحاب هذه القنوات أينما كانوا, بينما يذهب جيل من أبنائنا ضحية هذه القنوات وما تنشره من سموم في عقولهم, فهي إرهاب من نوع آخر وبأساليب لا تظهر غاياتها إلا بعد حين, ولن يستطيع الناس إغلاق أبوابهم ونوافذهم عن العالم درءا لهذا الإعلام المفسد, فالعالم اليوم يؤطره التواصل والتبادل الثقافي والحوار والتسامح, لكن الأخذ على أيدي هؤلاء القائمين على هذه القنوات ربما يقود إلى استشعارهم المسؤولية الأخلاقية تجاه بلدانهم.
إن محاسبة هؤلاء المتاجرين بالقيم أصبحت أمرا حتميا, والأخذ على أيدي القائمين عليها مطلب كل مواطن غيور على قيم مجتمعه وأخلاق أبنائه.
إن عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ عهد من عهود هذه المملكة الرائدة في العدل والإنصاف, إنه عهد يغاث فيه الناس بفطنة خادم الحرمين الشريفين وإنصافه وشجاعته وسعيه لاجتثاث الفساد دون هوادة. إن بلادنا عصفت بها نوازل جديدة كان أبغضها الإرهاب, فكان سيف الأمن ممشوقا في وجه هذه الفئة الضالة المضللة, فوقف العالم تقديرا لحزم هذه البلاد وصلابة وحدتها والتفاف أبنائها حول قيادتهم.
نحن في زمن البناء والعطاء والعلم والحوار, ويجب أن يؤخذ على يد كل متهاون في مسيرة البناء. وبناء الأجيال أكبر استثمار يقود إلى التقدم والازدهار, لكن أن تبقى هذه القنوات تنشر الفساد فإن جهود البناء قد تتعثر, وتطور الإنسان العربي يبقى أمرا في دائرة الاحتمال فقط, لأن هنا من يبني وهناك من يهدم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي