تمويل صندوق للصحة العالمية

في أيلول (سبتمبر) من هذا العام سيجتمع زعماء العالم في الأمم المتحدة من أجل التعجيل بإحراز التقدم على مسار تحقيق أهداف تنمية الألفية. ومن بين أهداف تنمية الألفية الثانية هناك ثلاثة أهداف تتعلق بتقديم الخدمات الصحية الأساسية لجميع سكان العالم. والواقع أن قدراً ضئيلاً من التمويل العالمي من شأنه إذا أُحسِن توجيهه أن ينقذ الملايين من الأرواح في كل عام. والخطوة الرئيسة هنا تتلخص في توسعة الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسُل والملاريا حتى يتحول إلى صندوق للصحة العالمية.
تم إنشاء الصندوق العالمي في عام 2002 لمساعدة العالم في حربه ضد هذه الأمراض الثلاثة الفتاكة، وكانت الإنجازات التي حققها الصندوق مذهلة، الأمر الذي يجعل منه الابتكار الأعظم نجاحاً في عالم المساعدات الخارجية طوال العقد الماضي. فبفضل برامج الصندوق العالمي يتلقى نحو 2.5 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم العلاج المضاد لفيروس الإيدز، هذا فضلاً عن علاج ما لا يقل عن ثمانية ملايين شخص من مرض السل، وتوزيع أكثر من 100 مليون من شبكات الأسِرة المعالجة ضد الحشرات في إطار مكافحة مرض الملاريا. وتشير الدراسات إلى أن البرامج التابعة للصندوق العالمي نجحت في مجموعها في إنقاذ خمسة ملايين إنسان على مستوى العالم.
إن النجاحات الملموسة التي حققها الصندوق العالمي كانت راجعة إلى إجراءاته التنفيذية الجادة. فقد أنشأ الصندوق عدداً من اللجان النوعية المتخصصة لمكافحة الأمراض، تحت مسمى ''آلية التنسيق القطري''، والتي تم تشكيلها في كلٍ من بلدان العالم النامي. وتتولى الحكومات الوطنية في هذه البلدان رئاسة هذه الآلية، ولكنها تشتمل أيضاً على مساهمات من المنظمات غير الحكومية في صياغة الخطط الوطنية النوعية في مكافحة الأمراض، والتي يتم رفعها إلى الصندوق العالمي.
وبمجرد تسلم الصندوق العالمي لهذه الخطط يتم إرسالها إلى هيئة المراجعة الفنية للتأكد من سلامتها العلمية وإمكانية تطبيقها. وفي حالة موافقة هيئة المراجعة الفنية على الخطط فيتم إرسالها إلى مجلس إدارة الصندوق العالمي، الذي يجري اقتراعاً على التمويل. وبمجرد الشروع في تنفيذ البرنامج، يتولى الصندوق العالمي متابعة تنفيذه، وإجراء عمليات التدقيق، والمراقبة، والتقييم. ومنذ عام 2002 وافق الصندوق العالمي على تخصيص نحو 19 مليار دولار لتمويل هذه البرامج.
بيد أن الصندوق العالمي، وخاصة الدول المانحة التي تدعمه، يواجه الآن تحديين هائلين. ويتمثل التحدي الأول في نقص التمويل. فقد أحرز الصندوق العالمي نجاحاً كبيراً إلى الحد الذي حمل بلدان العالم على تقديم برامج متزايدة الطموح للنظر في تنفيذها.
ولكن من المؤسف أن الصندوق العالمي يمر بأزمة مالية حقيقية. فهو يحتاج إلى ما يقرب من ستة مليارات من الدولارات سنوياً على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة لتغطية التوسع في تنفيذ برامج مكافحة الأمراض الثلاثة، ولكنه لا يتلقى سوى ثلاثة مليارات فقط سنوياً من البلدان المانحة. وما لم يتم تصحيح هذا الوضع فإن هذا يعني وفاة الملايين من الناس بلا داع.
أما التحدي الثاني فيتلخص في توسيع صلاحيات الصندوق العالمي. فحتى الآن قام الصندوق بالتعامل مع الهدف السادس من أهداف تنمية الألفية، والذي ركز على السيطرة على أمراض فتاكة محددة. غير أن مكافحة هذه الأمراض الثلاثة تشتمل حتماً على تحسين خدمات الصحة الأساسية ـ العاملين في مجال صحة المجتمع، والعيادات المحلية، ومستشفيات الإحالة، وخدمات نقل الطوارئ، وتوفير العقاقير العلاجية ـ والتي تلعب دوراً أساسياً في تحقيق الهدف الرابع من أهداف تنمية الألفية (خفض معدلات وفيات الأطفال) والهدف الخامس (خفض معدلات وفيات الأمهات). والواقع أن هذه الأهداف الثلاثة مترابطة؛ وتحقيقها جميعاً أمر ممكن من خلال رفع مستوى الخدمات الصحية الأولية على النحو اللائق. والواقع أن الخطوة الواضحة المطلوبة لتحقيق الهدفين الرابع والخامس من أهداف تنمية الألفية تتلخص في التوسعة الصريحة لصلاحيات الصندوق العالمي على المستوى المالي. فقد أظهرت بعض البرامج، مثل مشروع قرى الألفية، أن رفع مستوى أنظمة الصحة الأولية على مستوى القرية من الممكن أن يلعب دوراً حاسماً في الحد من وفيات الأطفال والأمهات. ولا شك أن توسيع صلاحيات الصندوق العالمي، حيث تشتمل على تمويل مشاريع تدريب ونشر العاملين في مجال صحة المجتمع، وبناء وتشغيل المرافق الصحية المحلية، وغير ذلك من عناصر الأنظمة الصحة الأولية، من شأنه أن يضمن تنمية وتطوير هذه الأنظمة المحلية.
وأخيرا أدركت بلدان عديدة ـ بما في ذلك فرنسا واليابان والنرويج والمملكة المتحدة والولايات المتحدة ـ الحاجة إلى الانتقال إلى ما هو أبعد من تمويل مكافحة الإيدز والسل والملاريا، وتمويل مشاريع تحسين أنظمة الصحة الأولية عموماً. ولكن يبدو أن هذه البلدان تنظر إلى قضية تمويل الأنظمة الصحية وكأنها تستلزم الاختيار بين أمرين: فإما توسيع نطاق السيطرة على الإيدز والسل والملاريا، أو توسيع نطاق تمويل أنظمة الصحة الأولية. والحقيقة بطبيعة الحال هي أن كلاً من الأمرين مطلوب، وكلاً منهما في متناول اليد.
إن التكاليف السنوية لمكافحة الأمراض الثلاثة على مدى السنوات الثلاث المقبلة ربما تصل إلى ستة مليارات دولار، إضافة إلى ستة مليارات أخرى سنوياً لتغطية تكاليف توسيع نطاق الأنظمة الصحية. قد يرى بعض المراقبين أن هذا المبلغ اللازم لتمويل الصندوق العالمي الموسع سنوياً (12 مليار دولار سنوياً) ضخم إلى حد غير واقعي مقارنة بالثلاثة مليارات التي يتم إنفاقها سنوياً الآن. ولكن 12 مليار دولار في الإجمال يُعَد مبلغاً متواضعاً للغاية، إذ يشكل نحو 0.033 في المائة (ثلاثة سنتات عن كل 100 دولار) من الناتج القومي الإجمالي للبلدان المانحة. وهذا مبلغ ضئيل حقاً ويمكن جمعه بسهولة إذا كانت البلدان المانحة جادة. كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما صريحاً في دعمه لفكرة رفع مستوى الخدمات الصحية الأولية، ورغم ذلك فإن المقترحات المحددة الخاصة بالميزانية والتي تقدمت بها إدارته ما زالت غير مرضية. وأسوأ ما في الأمر أن الميزانية التي اقترحتها إدارة أوباما لعام 2011 تقدم مليار دولار فقط سنوياً للصندوق العالمي، ولا شك أن هذا المبلغ الضئيل لا يتناسب مع زعامة الولايات المتحدة.
وإذا وسعت الولايات المتحدة دعمها السنوي للصندوق العالمي إلى نحو أربعة مليارات دولار سنوياً، فمن المرجح أن يحفز ذلك بقية الجهات المانحة على مستوى العالم ويدفعها إلى المساهمة بالمبلغ المتبقي، وبهذا تصبح مساهمة الولايات المتحدة في إجمالي التمويل الثلث. ولجمع هذه المبالغ الإضافية تستطيع إدارة أوباما أن تفرض ضريبة على الأرباح الفائضة في ''وال ستريت'' لتعويض العجز في ميزانية التمويل. ومن المفترض أيضاً أن يبدأ المصرفيون في ''وال ستريت''، الذين كان أداؤهم الهزيل سبباً في إلحاق الضرر الشديد بالاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة، والذين ما زالوا يجنون المكافآت السخية، في التكفير عن أخطائهم بالمساهمة بالضريبة الجديدة التي ستسهم في إنقاذ أرواح الملايين من البشر في السنوات المقبلة.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي