صراع موسكو ضد جمهوريات القوقاز .. حرب ممتدة أم أزمة مؤقتة؟!
في عام 1989 أثمرت جهود جورباتشوف تحت أسماء البيروسترويكا والجلاسونوست عن تفكك الاتحاد السوفياتي وتحوله إلى 14 دولة. لكن الولايات الإسلامية في القوقاز, التي كانت تتبع دوقية موسكوفي ثم أصبحت جزءا من جمهورية روسيا (موسكو), لم تحظ بهذا الاستقلال. ورغم سعي واشنطن الحثيث إلى ''تحرير'' لاتفيا, أستونيا, ليتوانيا, أوكرانيا, روسيا البيضاء, وجمهوريات وسط آسيا (كازاخستان, أوزبكستان, تركمانستان, غيرغيزيا, طاجيكستان, أذربيجان, أرمينيا, وجورجيا)، إلا أنها لم تفكر في فك إسار المسلمين في أوستيا, أبخازيا, جورجيا, الشيشان, الأنجوش, وداغستان. وكان من نتيجة ذلك أن بقيت هذه الجمهوريات الصغيرة المسالمة تحت الهيمنة الروسية، وتلاقي الأمّرين تحت سيطرة قوى أمنية محبطة تسلل الفساد إليها فأنشأت عصابات مافيا للسرقة والقتل. كان من الطبيعي أن يحدث الارتطام الحتمي والصدام بين هذه الجمهوريات وموسكو، التي دخلت حربين ضد الشيشان واستخدمت فيهما وسائل العنف كافة التي ولدت شعورا بالانتقام. وكان بوتين قائدا للحملات التي أدت إلى اندلاع العنف في كل جمهوريات القوقاز. واليوم تتجدد أعمال العنف ممثلة في سلسلة من الانفجارات في كل من أنجوشيتيا وداغستان والشيشان.
والحق يقال إن واشنطن انحازت لبوتين في هذه الحرب، واعتبرت صراع المسلمين من أجل الاستقلال الذي حصلت عليه الجمهوريات كافة التي ذكرتها إرهابا لارتباطه بالمسلمين، الذين تعدهم واشنطن عدوها الأول وحملة لواء الإرهاب. ولد هذا الشعور بالظلم مزيدا من الرغبة في شن حملات عنيفة, فكان انفجار لوبيانكا, وهي محطة مترو شهيرة إلى جوار الميدان الأحمر في قلب موسكو وعلى بعد أمتار من إدارة البوليس السري المضاد للجمهوريات الإسلامية، حيث وقف ثلاثة آلاف روسي لإيقاد الشموع، وحيث دقت الأجراس 39 دقة بعدد الضحايا الذين قتلهم التفجير في المحطة.
بدأت الأمور تأخذ منحنى التحدي والدراما عندما وقف عمروف زعيم ثوار الشيشان ليعلن مسؤوليته عن قتل 39 شخصا وهدد بالدخول إلى قلب روسيا, وظهر في شريط فيديو بعد قتل 12 شخصا في شمال القوقاز، أي أن 51 قتيلا وأكثر من 100 جريح سقطوا في ثلاثة أيام ليعلن أن ''الروس لن يتابعوا الحرب في الراديو والتلفزيون وإنما في قلب شوارعهم وأمام منازلهم''.
على الجانب الآخر، كان فلاديمير بوتين يعتقد أنه أنهى المعركة مع مسلمي القوقاز عندما انتصر عليهم مرتين، فإذا به يعلن اليوم أن الحرب لم تنته بعد وأن ''عصابة واحدة تقف وراء تفجيرات موسكو وداغستان'', حيث وقع تفجيران في مدينة كيزليار.
ويرى المراقبون أن بوتين فشل في السيطرة على الموقف واحتواء التمرد، وذلك لأن هناك عوامل عديدة تؤدي إلى تأجج ميزان العنف وعلى رأسها:
** الفقر المدقع الذي يعانيه سكان الجمهوريات الإسلامية في القوقاز.
** المنافسات المستمرة بين القبائل والزعامات المحلية، حيث يتدثر بعضها بغطاء الدولة والآخر بالمتمردين.
** الفساد الذي استشرى في أنحاء روسيا كافة، الذي تصبح ضرباته أكثر إيلاما في المناطق الفقيرة.
** سطوة وتزايد قوة الإسلاميين بعدما انضم إليهم مزيد من الأنصار في ضوء اليأس من إصلاح حال الحكومة.
** الصرامة والعنف والبطش التي تمارسها قوات الأمن, ما ولد شعورا بضرورة الانتقام وتوجيه ضربات موجعة للسلطات, لذلك لوحظ أن معظم الضربات موجهة إلى الشرطة والأمن.
ولا يختلف المهتمون بالشأن الروسي عامة وجمهوريات القوقاز خاصة على أن المحادثات الروسية - الأمريكية تضع بندا سريا أساسيا وهو التعامل مع مسلمي القوقاز. وظهرت نزعات في أمريكا للضغط على بوتين وميدفيديف بتخفيف الضغط والعمل على إحلال نوع من اليسر الاقتصادي بهدف تخفيف العنف، لكن بوتين يؤمن بنظرية الهراوة الغليظة، وهو ما أوقعه الآن في مأزق الحرب الأهلية.
وجاء انفجار انتحاري في أنجوشيتيا بمثابة إنذار قوي، حيث قُتل اثنان من ضباط الشرطة بعدما هاجم انتحاري مركزا للشرطة، وترك سيارته المُلغمة في الخارج لتنفجر وتصيب أعدادا أخرى في مدينة كارابولاك، وكاد الحادث يؤدي إلى موت العشرات لولا أن المهاجم تسرع في تفجير عبواته عندما طُلب إليه إظهار بطاقة هويته.
وعلى الجانب الآخر ، قتلت الشرطة الروسية سعيد بوراتسكي, وهو واحد من أشهر الأئمة والزعماء المسلمين في شمال القوقاز في 4 آذار (مارس) الماضي، ويعتقد كثيرون أن تفجيرات المترو ومركز الشرطة تأتي انتقاما لمقتله، وهو الذي ظهر في التلفزيون ليقول ''إن موتنا ليس انتحارا، إنه الموت النبيل الذي يثبت إيماننا بالله، وأنا أحلم بأن أموت هكذا وأنا في قمة إيماني''. وسبب بوراتسكي مشكلات أيديولوجية كبيرة عندما أعلن آراءه, حيث قال إن الرد الوحيد على المستعمر هو ذلك، وما دام لا سبيل إلى دفع العدوان إلا بالموت وقتل العدو، فلا بأس. ويعزو المحللون تفشي وانتشار آراء بوراتسكي إلى الضغط والاضطهاد الذي يعانيه أبناء القوقاز – خاصة الشمالي – على يد رجل الاستخبارات السابق بوتين.
وتلقى التلفزيون الروسي انتقادات حادة لأنه انطلق في بث خطب للرئيس ميدفيديف ورئيس الوزراء فلاديمير بوتين بعد التفجيرات واعتبروا ذلك امتدادا للشفهية والحروب العنترية. وجاءت شدة الضربة من وقوعها في الذكرى الـ 65 لانتصار روسيا على النازي, فضلا عن أنها الضربة الأولى منذ ست سنوات عندما قُتل عشرة من الروس بسبب انفجار في محطة ريجسكايا. ويؤكد خطورة ما يحدث أن هناك 15 انتحاريا من الشيشان والأنجوش والداغستانيين قاموا بعمليات منذ سنة 2009 في أماكن متفرقة، وهو ما يضعف حجة بوتين في أن الحرب الثانية على الشيشان قد أسكتتهم إلى الأبد بعد تدمير عاصمتهم جروزني وقتل أعداد كبيرة من الإسلاميين سنة 2008، بل إن الرئيس الحالي للشيشان وهو رمضان قاديروف كان متمردا وعاد إلى الولاء لموسكو. وأبرز ما يزعج بوتين هو أن بوراتسكي كان قد درب 30 فتاة على أعمال التفجير الذاتي، وكلها تفاصيل تؤكد أن حقبة جديدة في الأفق، لن يكفي معها ما يفعله قاديروف مع نشاط الإسلاميين، بل إن التهديد الخفي الكامن في شمال القوقاز يتحرك بسرعة وينذر باشتعال ربما يجر معه بعضا من الجمهوريات المجاورة مثل جورجيا وأوكرانيا.