مدخلات التعليم ومخرجاته
يتحدث أهل الصناعة عن نظام المدخلات والعمليات والمخرجات وهي مصطلحات وجدت لها رواجا في التربية والتعليم, وبات الحديث عنها تقليعة أكاديمية ثقافية, وكأننا نتحدث عن مصانع وخطوط إنتاج ومواد خام تتحول إلى صناعات وأدوات نستعملها ونستفيد.
وإذا ما تجاوزنا هذه المقدمة, وسلمنا بقضية المدخلات والمخرجات, فإننا يجب أن نعالج بعض الهموم والأشجان حولها, ونثير بعض التساؤلات لعلنا نجد مكمن الخلل في منظومتنا التعليمية, وسبب هشاشة مخرجاتها, ولا سيما ونحن نشهد جدالا حول سبب هذه الهشاشة, كما نشهد تقاذفا للكرة بين وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي, ففي الوقت الذي تشتكي فيه وزارة التعليم العالي من مخرجات التعليم العام, التي هي أحد مدخلات التعليم العالي، في هذا الوقت, نرى التعليم العام يعزو هذا الخلل في مخرجاته إلى ضعف مخرجات التعليم العالي, (المعلمون تحديدا), إذ ضعف تأهيلهم أدى إلى ضعف مخرجات التعليم العام وهم الطلاب (تلاميذ هؤلاء المعلمين) وأصبحنا بين هاتين الوزارتين نعيش جدلية البيضة والدجاجة أيهما وجد أولا!
حجة الذين يحملون التعليم العام المسؤولية أنه الأساس, وأنه تهلهلت عملياته, وبالتالي ضعفت مخرجاته حتى بلغ الأمر انعدام الثقة بمقاييسه واختباراته المتخمة بدرجات (الفالصو), ما حدا بالتعليم العالي إلى إيجاد المركز الوطني بالقياس والتقويم, كما اضطر التعليم العالي إلى تطبيق فكرة السنة التحضيرية, وهي سنة الغرض منها إعادة تأهيل وترميم مخرجات التعليم العام في المهارات الأساسية، بل بلغ الأمر إلى تعميم السنة التحضيرية على جميع الكليات التطبيقية والنظرية بعد أن كانت مقصورة على الكليات التطبيقية.
وإذا ما سلمنا بهذه المرافعة, وهذه التهمة من وزارة التعليم العالي, وهي إخفاق التعليم العام في التعليم والتقويم, فإن السؤال الأكثر إلحاحاً هنا هو: ما مبررات ودواعي بقاء وزارة التربية والتعليم والحال هذه؟!
وإن هذه التهمة بمقدماتها ونتائجها تبدو منطقية في ظل معطيات الواقع المشاهد منذ ما يقارب عقدين مضيا والمخرجات في انحدار, ويمكن القول إننا نعيش عصر (ارتخاء المخرجات) والمعايير تبعاً لها و(ما لك إلا خشمك ولو كان عوج)!
لكن هذه التهمة بمنطقيتها وجدليتها تتهاوى ويذهب وهجها إذا ما نظرنا إلى التعليم العالي هو الآخر، إذ انتقلت إليه العدوى واستمر مسلسل الانهيارات التعليمية وتساقطت قطع الديمنو إلى درجة أن التعليم العالي أوكل السنة التحضيرية في أرقى الجامعات السعودية إلى مراكز تدريبية حديثة النشأة وليس لها في التعليم والتدريب ناقة ولا جمل, ولا حتى دجاجة! حتى ما يسمى الخصخصة، هذا من جانب, ومن جانب آخر فإن هناك طرحاً وتجارب في استنساخ السنة التحضيرية في نهاية المرحلة الجامعية لتهيئة الطلاب لسوق العمل! وكأن الأربع سنوات الجامعية غير ذات جدوى في تعليمهم وتأهيلهم! يحدث هذا الأمر في الوقت الذي ملأنا الجو فيه صخباً وضجيجاً حول الجودة والاعتماد الأكاديمي! فهل حققنا بالفعل الجودة على أرض الواقع؟ سؤال هو الآخر يبدو مُلّحا! هذه الهلهلة لم تسلم منها حتى الدراسات العليا التي تعاني هي الأخرى تراخي المعايير بسبب ضعف المدخلات والعمليات على حدٍ سواء, ولا سيما مع باقة التعليم الموازي في ظل التوسع في الاستيعاب وتكالب الأساتذة على زيادة الدخل المادي والتغافل عن الجودة في العمليات، والمصيبة أن هذه المخرجات ستتولى عداً دفة التعليم ليزداد الخرق اتساعاً والمخرجات تهلهلاً ويصبح الواقع مثل كرة الثلج يزداد حجمها بتدحرجها ويصبح حالنا (من جرف لدحديرة! ويا قلب لا تحزن) وإن شئتم دليلاً فانظروا إلى واقع الماجستير الموازي واكتظاظ القاعات بالطلاب حتى تجاوز العدد الـ 30 طالبا في القاعة الواحدة، بل بلغ الأمر في تراخي المعايير في الموازي في إحدى الجامعات إلى تقديم الموازي باللغة العربية بينما الأساسي باللغة الإنجليزية، وإن شئتم دليلاً فابحثوا في حجم السوق السوداء لكتابة البحوث والدراسات للطلاب مهلهلي الحال!
إنني هنا أدعو بكل صراحة ودون مواربة إلى إعادة النظر في مسألة ارتخاء المعايير في التعليم الموازي (ضعف المدخلات), فإن لم تُسمع هذه الدعوة فإني أدعو بقوة إلى الأمانة والجودة الفعلية لعمليات التعليم ورفع مستوى المعايير بحيث لا ينجح إلا من يستحق ذلك، وإلغاء ثقافة استحقاق الألف والألف زائد إلا لمن يستحقها ليتساقط الزبد ويذهب جفاءً ويبقى ما ينفع الناس!
لعل الدعوة تُسمع فهذا المُؤمل.