التأجيل وإعادة الجدولة أو العجز عن السداد
في حين تعمل اليونان مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي على تفعيل حزمة الإنقاذ التي من المفترض أن تبلغ 45 مليون يورو، فقد بات من الواضح أن الأمر يتطلب تناولاً جديداً أكثر شمولاً. فهناك مشكلتان لابد من التعامل معهما: مصداقية برنامج تثبيت الاستقرار المالي اليوناني، وكيفية سد الفجوة التمويلية في البلاد في الأمد المتوسط.
إن حجم الجهد المطلوب من أجل تصحيح الأوضاع المالية في اليونان معروف للجميع الآن. فلابد أن يتم خفض العجز بنسبة لا تقل عن عشر نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي (من نحو 13 في المائة إلى أقل من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي). والمشكلة الأساسية هنا، والتي لم يتصد لها أحد حتى الآن، هي أن تصحيح الأوضاع المالية على هذا النطاق الهائل يتطلب التزام الحكومة باتخاذ خطوتين لن يتسنى لها تنفيذهما إلا بموافقة واسعة النطاق على الصعيد الاجتماعي: خفض الأجور وخفض الإنفاق الاجتماعي. والواقع أن كلاً من هاتين الخطوتين تفتقر إلى الشعبية في اليونان ولكنها في الوقت نفسه لا مفر منها.
وهناك أيضاً مشكلة القدرة على التنافس. فقد ارتفعت تكاليف وحدة العمل بنسبة 10 إلى 20 في المائة مقارنة بنظيراتها في ألمانيا. وإذا افترضنا أن اليونان راغبة في البقاء في منطقة اليورو، فإن ''خفض قيمة العملة داخلياً'' (أي خفض الأجور الاسمية إلى حدٍ كبير)، بات يشكل أيضاً أمراً لا مفر منه.
قد يكون بوسع الحكومة أن تخفض الأجور في القطاع العام (وهذا ما حدث بالفعل)، ولكن هذا لا يكفي. فالأمر يتطلب أيضاً خفضاً كبيراً للأجور في القطاع الخاص بهدف تحفيز الصادرات (التي أصبحت تشكل الآن أقل من 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، حتى لو أحصينا السلع والخدمات) لتعزيز ولو مصدر واحد على الأقل من مصادر النمو.
وهذا يعني أن اليونان تحتاج إلى ''ميثاق تنافس وطني''، يوافق أصحاب العمل والحكومة والمعارضة بمقتضاه على مجموعة من التدابير الكفيلة بخفض تكاليف وحدة العمل بنسبة 10 في المائة على الأقل. ومن الممكن الاستعانة بثلاثة سبل لتحقيق هذه الغاية: تعديل الأجور الاسمية، وتمديد ساعات العمل، وخفض اشتراكات الضمان الاجتماعي (والتعويض عن ذلك بزيادة ضريبة القيمة المضافة). وينبغي أن يترك اختيار المزيج المطلوب من التدابير لليونان، ولكن خفض تكاليف وحدة العمل على هذا النطاق الضخم يشكل خطوة أساسية أولى نحو توفيق الأوضاع بنجاح، ولا ينبغي لهذا أن يكون شرطاً مسبقاً للحصول على حزمة الدعم من جانب صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي.
ولا مفر أيضاً من إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق الاجتماعي من أجل تحقيق استقرار التمويل العام. إن العجز المالي المتنامي في اليونان على مدى العقد الماضي كان راجعاً في الأساس إلى الزيادة الهائلة في حجم الخدمات الاجتماعية، من 20 في المائة إلى ما يقرب من 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، من دن إي زيادة ملموسة في العائدات الضريبية.
وخلافاً للتصور الشائع فإن فاتورة أجور القطاع العام لا تشكل سوى أهمية هامشية. فقد فرضت الحكومة بالفعل أغلب التعديلات المطلوبة في هذا السياق.
والواقع أن خفض الأجور في القطاع العام قد يدر على أقصى تقدير من 1 إلى 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وإذا ما علمنا أن الإنفاق الاجتماعي يصل إلى ما يقرب من 60 في المائة من إجمالي الإنفاق العام، فسندرك أن توفيق الأوضاع المالية بنجاح سيتطلب في نهاية المطاف خفض الإنفاق الاجتماعي بصورة ملموسة. والبديل يتلخص في زيادة العائدات الضريبية بنسبة تقرب من 50 في المائة في غضون بضعة أعوام. وهو أمر غير عملي ببساطة.
إن الإصلاح العميق لدولة الرفاهية الاجتماعية وبناء نظام حديث لإدارة الضرائب يتطلب الوقت. ولكن الأسواق المالية ليست في حالة مزاجية تسمح لها بمنح اليونان الوقت الكافي، وهو ما يقودنا إلى المشكلة الرئيسة الثانية التي تواجه البلاد.
فمن أجل الحصول على الفسحة الزمنية المطلوبة حتى تتمكن عملية الإصلاح من ترسيخ قدميها، تستطيع الحكومة اليونانية أن تعلن عن إعادة جدولة بسيطة: تمديد تاريخ استحقاق جميع الديون العامة المستحقة لمدة خمسة أعوام بسعر فائدة ثابت. وفي هذه الحالة فإن الحكومة اليونانية لن تضطر إلى سداد ديونها طيلة الأعوام الخمسة المقبلة، إلا أنها ستضطر إلى إعادة تمويل نحو 30 مليار يورو سنوياً بداية من عام 2015 فصاعداً، وهو أمر يمكن تدبره بحلول ذلك الوقت. أما احتياجات التمويل الرسمية فلابد أن تكون آنذاك أكثر تقييداً، ولابد أن تكون حزمة الإنقاذ التي سيقدمها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي لليونان (45 مليار يورو) كافية لتغطية أغلب العجز الذي من المفترض أن يتقلص تدريجياً خلال فترة السماح.
من دون إعادة جدولة الديون على هذا النحو فمن غير المرجح أن تتمكن اليونان من ترحيل ما يقرب من الـ 30 مليار يورو المستحقة سنوياً على مدى الأعوام القليلة المقبلة. ومع الوقت فسيكون لزاماً على بلدان منطقة اليورو أن تعيد تمويل أغلب الديون العامة اليونانية. وهذه ببساطة وصفة لاستمرار المشكلات السياسية، وذلك لأن اليونان سترى دوماً أن سعر الفائدة أعلى مما ينبغي، في حين أن ألمانيا ستعتبره أقل مما ينبغي (على الأقل نسبة إلى معدلات السوق). فضلاً عن ذلك فبمجرد أن تبدأ منطقة اليورو في إعادة تمويل اليونان من دون أي مساهمة من دائني القطاع الخاص، فسيكون من المستحيل وقف هذا الميل.
إن الشكل المقترح لإعادة جدولة الديون هنا قد يشير إلى استعداد حكومة اليونان لتسديد ديونها بالكامل، وبالتالي فقد يُقبَل هذا الشكل من دون إحداث اضطرابات كبيرة في الأسواق المالية. وبطبيعة الحال، ستنظر الأسواق إلى أي خطة لإعادة الجدولة من دون الاستعانة ببرنامج جدير بالثقة لتوفيق الأوضاع باعتبارها مجرد تمهيد للعجز عن السداد في وقت لاحق، الأمر الذي لابد أن يؤدي بالتالي إلى ارتفاع علاوة المخاطرة.
ولكن حتى أفضل برامج توفيق الأوضاع لا يمكن تمويله من دون بعض المشاركة من قِبَل الدائنين المنتمين إلى القطاع الخاص في شكل من أشكال إعادة الجدولة. وعلى هذا فإن السبيل الوحيد لخروج اليونان من هذا المأزق يتلخص في الجمع بين العنصرين: إعادة جدولة الديون إلى جانب الاتفاق على المستوى الوطني على الأجور والإنفاق الاجتماعي. أما النهج الحالي ـ الذي لا يركز إلا على احتياجات التمويل وتوفيق الأوضاع المالية في عام 2010، ويؤجل كل الخيارات الصعبة لوقت لاحق ـ فلن يكتب له النجاح.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org