من محاسن الدين .. وجوب إنظار المعسر
علق أحد القراء الفضلاء في إحدى المقالات مستفسرا عن عدم الكتابة عن أحكام الإعسار في هذه الزاوية ومع أنني تحدثت عن هذا الموضوع في مقال قديم إلا أنني أشير إلى بعض أحكامه مرة أخرى وقد يكون فيها تفصيل مختلف.
فأصل الإعسار هو ثبوت عدم قدرة المدين على سداد الدين الذي عليه, وفي هذه الحال يجب على الدائن أن ينظر المدين إلى حين ميسرة استنادا إلى قوله تعالى: «وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة» فيجب على الدائن أن ينظر غريمه المعسر وهو قول جمهور الفقهاء، بل قرر بعض العلماء أنه إن كان الدائن يعرف أن غريمه معسر فلا يجوز له أن يرفعه إلى الحاكم لإثبات إعساره بل يمهله ولا يرفع عليه الدعوى.
أما في النظام القضائي فقد جاء تنظيم أحكام الإعسار في نظام المرافعات الشرعية ولائحته التنفيذية, فعند صدور حكم نهائي على المدين وطالب الدائن بالسداد لدى قاضي التنفيذ فللمدين ثلاث حالات: فإما أن يسدد ما عليه فينتهي الالتزام, وإما: يمتنع عن السداد لغير عذر الإعسار فيتم الحجز والتنفيذ على أمواله وحبسه وفقا للأحكام المفصلة في النظام, والحالة الثالثة: أن يدعي الإعسار فتلزم إحالته إلى المحكمة التي أصدرت الحكم للتحقق من إعساره, وقد بيّت اللائحة أن إثبات الإعسار من اختصاص المحاكم مهما كان مصدر الحكم سواء كان من قبل المحاكم أو من غيرها من اللجان ذات الاختصاص القضائي, كما نصت على أن النظر في الإعسار يكون في مواجهة الغرماء أو بعضهم, وأنه إذا أثبت القـاضي إعسار المدين فلا يسلم له الصك، ويرفق بالمعاملة وفي هذا قضاء على ظاهرة طالما انتشرت وهي التسول بصكوك الإعسار أو توظيفها في إبطال حقوق الناس, ولا بد من تأكيد معلومة قد تخفى وهي أن صك الإعسار في حال صدوره فهو لا يشمل ما يجدّ بعده من ديوان، بل يتم التعامل معها وفق إجراءات جديدة.
وقد استقر عمل القضاة على عدد من الإجراءات في حال اتجهت المحكمة إلى النظر في الإعسار, فمن ذلك: البحث عن أموال المدين من خلال المدعين ومن خلال الجهات ذات العلاقة وبالذات البنوك بواسطة مؤسسة النقد, ومن الإجراءات كذلك: سجن المدين عند الاقتضاء استظهاراً لحاله, وبحثاً عن أمواله, وتحديد مدة كافية لا تزيد على أربعة أشهر في المدة الواحدة قبل عرض المدين عليه مرة أخرى, ويرجع تحديد عدد مرات سجنه للقاضي, ولا يمنع ذلك من طلبه في أي وقت والنظر في القضية, ولا بد من التأكيد على أن استخراج صك الإعسار ليس بالسهولة التي يظنها البعض، بل هناك إجراءات وضمانات تكفل استحقاق المعسر لإثبات إعساره أو رفض طلبه.
وهذا الحكم وهو ضرورة إمهال المدين هو من محاسن هذه الشريعة التي أمرت بالإيفاء بالعقود كما في قوله»يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود», وتوعدت على مطلها «مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته», ووعدت من أخذ أموال الناس ناويا أداءها أن الله يؤدي عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله كما في البخاري, ومع ذلك فقد رغبت الشريعة وحثت على إنظار المعسرين بل منعت من ملازمتهم ومطالبتهم كما سبقت الإشارة إليه, ومن النصوص في ذلك: ما أخرجه مسلم أن أبا قتادة طلب غريما له فتوارى عنه. ثم وجده. فقال: إني معسر. فقال: آلله؟ قال: ألله. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر، أو يضع عنه), وفي صحيح مسلم أيضا أن حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم. فقالوا: أعملت من الخير شيئا؟ قال: لا. قالوا: تذكر. قال: كنت أداين الناس. فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر. قال: قال الله عز وجل: تجوزوا عنه).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».