هل بدأت العواصف المائية في الهبوب على مصر؟

ارتباط مصر بالنيل أمر عضوي، واستقرار مصر كدولة اعتمد دائما على استقرار وتدفق مياهها عبر نهر النيل الساحر، الذي يعني بالنسبة لمصر كل شيء، ولا ننسى هنا مقولة هيرودوت: لولا النيل لأصبحت مصر صحراء جرداء لا حياة فيها ولا ماء. وأكسبها الرحالة كنجليك Kinglake رومانسية بالغة عندما قال ''من يشرب من ماء النيل مرة لا بد أن يعود مرات ومرات''.
ولكن يبدو أن كل هذا الاسترخاء والاستمتاع بالنهر الخالد والموجة التي تطارد الموجة لتعانقها قد اقترب من نهايته، وأن الفصل المقبل في مسلسل النيل يتسم بالجدية بل التوتر والقلق.
بدأت تصل لأسماع مصر دقات طبول غاضبة، طبول إفريقية تحمل التهديد وتعرب عن الغضب، وتزمجر لأن مصر كانت صاحبة نصيب الأسد من مياه النيل . وتجسد الغضب في اجتماعات في كينشاسا والإسكندرية، في المدينة الأولى وقفت ثماني دول هي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وإريتريا والكونغو ضد مصر والسودان، وفي المدينة الثانية نجح المصريون والسودانيون (دولتا المصب) في الحصول على ستة أشهر لالتقاط الأنفاس.
والمشكلة بإيجاز شديد هي شعور دول المنبع المذكورة بأن حصول مصر على 55.5 في المائة من مياه النيل والسودان على 15 في المائة بمقتضى اتفاقية 1959 بين البلدين فيه ظلم لدول المنبع. ولذلك تطالب بالتوقيع على اتفاقيات جديدة تعيد توزيع الحصص وتمنح دول المنبع الحق في إقامة مشاريع مائية تنموية على مياه النيل. وهذا يعني أن دول المنبع تريد أن تلغي تاريخا من الاتفاقيات التي تحكم التعامل مع مياه النيل وهي:
(1) بروتوكول روما الموقع في 15 أبريل عام 1891 بين كل من بريطانيا وإيطاليا التي كانت تحتل إريتريا في ذلك الوقت بشأن تحديد مناطق نفوذ الدولتين في شرق إفريقيا وتعهدت إيطاليا بعدم إنشاء أية مشاريع على نهر عطبرة (أحد روافد النيل) يمكن أن تؤثر في مياه النيل.
(2) اتفاقية أديس أبابا الموقعة في 15 مايو عام 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا والتي تعهد فيها الملك منليك الثاني ملك إثيوبيا بعدم إقامة أو السماح بإقامة أي منشآت على النيل الأزرق (أهم روافد نهر النيل وأكثرها ثراء بالماء) أو بحيرة تانا منبع هذا النيل أو نهر سوباط من شأنها أن تعترض سريان مياه النيل إلا بموافقة الحكومة البريطانية والحكومة السودانية مقدما.
(3) اتفاقية لندن الموقعة في 13 ديسمبر عام 1906 بين كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وينص البند الرابع فيها على أن تعمل هذه الدول معا لتأمين دخول مياه النيل الأزرق وروافده إلى مصر.
(4) اتفاقية روما وهي عبارة عن مجموعة خطابات متبادلة بين بريطانيا وإيطاليا عام 1925 تعترف فيها إيطاليا بالحقوق المالية المكتسبة لمصر والسودان في مياه النيل الأزرق والأبيض وروافدهما، وتتعهد بعدم إجراء أي إشغالات عليهما من شأنها أن تنقص كمية المياه المتجهة نحو النيل الرئيس.
(5) اتفاقية عام 1929 وهي عبارة عن خطابين متبادلين بين رئيس الوزراء المصري محمد محمود والمندوب السامي البريطاني لويد مرفق بهما تقرير لجنة المياه الذي سبق إعداده عام 1925، وقد وقعت بريطانيا نيابة عن كل من السودان وأوغندا وتنجانيقا (تنزانيا حاليا)، وكانت كلها مستعمرات بريطانية وأهم ما فيها:
أ – ألا تقوم أعمال ري أو توليد قوى على النيل وفروعه أو البحيرات التي ينبع منها سواء في السودان أو في البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية من شأنها إنقاص مقدار المياه التي تصل إلى مصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق ضررا بمصالح مصر.
ب – تنص الاتفاقية صراحة على حق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل.
(6) اتفاقية لندن الموقعة في 23 نوفمبر عام 1934 بين كل من بريطانيا نيابة عن تنجانيقا (تنزانيا حاليا) وبلجيكا نيابة عن رواندا وبوروندي وتتعلق باستخدام كلتا الدولتين لنهر كاجيرا.
(7) اتفاقية عام 1953 بين مصر وبريطانيا نيابة عن أوغندا بخصوص خزان أوين عند مخرج بحيرة فيكتوريا وهي خطابات متبادلة أهم ما فيها:
أ – الإشارة في الاتفاقيات المتبادلة إلى اتفاقية 1929.
ب – تعهد بريطانيا بألا يؤدي الخزان إلى إنقاص حصة مصر.
(8) اتفاقية 1959 بين مصر والسودان في القاهرة في نوفمبر سنة 1959 وقد وقعها عن السودان طلعت فريد ومقبول الأمين وعن مصر زكريا محيي الدين وجاءت لتكمل اتفاقية 1929 ومن بنودها:
أ – احتفاظ مصر بحقها المكتسب من مياه النيل وقدره 48 مليار متر مكعب سنويا .
ب – موافقة البلدين على إنشاء مصر السد العالي.
جـ – موافقة الدولتين على إنشاء مصر خزان الروصيرص على النيل الأزرق.
د – توزيع المياه الخاصة بالفائدة المائية للسد العالي، حيث تحصل مصر على 7.5 مليار والسودان على 14.5 مليار ليصل إجمالي نصيب مصر 55.5 مليار والسودان 18.5 مليار مكعب.
(9) اتفاقية 1991 بين مصر وأوغندا، حيث أعربت أوغندا عن احترامها لاتفاقية 1953 وضمنيا باتفاقية 1929. كما نصت على مناقشة السياسة التنظيمية المائية لبحيرة فيكتوريا.
(10) إطار التعاون بين الرئيس مبارك ورئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي والذي حدد عدة أمور منها احترام القوانين الدولية والتشاور المستمر بين الدولتين وضرورة الحفاظ على مياه النيل وحمايتها وعدم قيام أي دولة بعمل أي نشاط يتعلق بمياه النيل يتسبب في ضرر للدولة الأخرى.
بعد هذا السرد للاتفاقيات التي تؤمن حقوق مصر تطالب دول المنبع بإعادة النظر وتتذرع بأن كل ذلك تم في عهد الاحتلال، وتتغاضى هذه الدول جميعا عن الدور المصري المحوري في تحريرها في مطلع الستينيات ونهاية الخمسينيات عندما كانت القاهرة المقر الدائم لزعماء حركات التحرير.
ويثور الحديث عن دخول عناصر أجنبية أمريكية وإسرائيلية، ولكن ذلك أمر في حاجة إلى الأدلة، حيث رفضت دول المنبع منح مصر مياه إلى إسرائيل وقالوا ''إن النهر الإفريقي لن يروي دولا آسيوية أو غير إفريقية''. ولكن القلاقل بدأت. ومن العجيب أنني لاحظت أن مصر ألغت عشرات البرامج والمواجهات باللغات الإفريقية في الوقت الذي تحتاج فيه إلى مخاطبة الشعوب الإفريقية وإقناعها بروح المسالمة والود والمصلحة المتبادلة والمشتركة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي