الذكرى الصامتة للنكبة المؤلمة
مرت هذا الشهر الذكرى الـ 62 لنكبة فلسطين, وهي النكبة التي تآمر فيها الغرب مع الحركة الصهيونية لارتكاب أكبر عملية نصب وسرقة واحتيال في التاريخ بسلب وطن مأهول من شعبه بوعد ممن لا يملك لمن لا يستحق, والذي لا يملك بريطانيا صاحبة الوعد المشؤوم, الذي قدمه آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك في 23 المحرم 1336 ـ 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917, للورد اليهودي ليونيل وولتر دي روتشلد, الذي جاء فيه ''إن حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين, وستبذل غاية جهدها لتسهيل هذه الغاية...'', والذي لا يستحق هم اليهود كون فلسطين أرضا عربية الهوية, إسلامية ومسيحية الديانة وليس لهم فيها من تاريخ هامشي إلا بضع مئات من السنين لا تعطيهم فيها حقا, وفعلا نفذ هذا الوعد فيما بعد حين قامت بريطانيا باستغلال وصايتها على فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية, بتسهيل تدفق الهجرات اليهودية لأرض فلسطين, وقدمت لها كل الحماية وهي تشكل عصابات إجرامية مارست كل ألوان الإرهاب والقتل ضد الفلسطينيين الآمنين في مدنهم وقراهم, إلى حد ارتكاب مجازر إبادة جماعية وتهجير لا إنساني لسكان 531 قرية, وهو أسلوبهم الإرهابي من دير ياسين عام 1948 حتى محرقة غزة العام الماضي. وحين أعلن قيام دولة لليهود باسم إسرائيل سارعت الدول الغربية مع الاتحاد السوفياتي إلى الاعتراف بها, بل رعتها وحمتها وقدمت لها الغطاء السياسي في انتهازية واضحة في رغبتها في التخلص من اليهود الذين خبروهم لقرون, خصوصا بعدما تزايدت معدلات هجرتهم من الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية للغرب بعد الحرب العالمية الثانية, على حساب العرب والمسلمين حتى المسيحيين.
كل هذا التاريخ الأسود لكيان هذا العدو معروف ومدون, لكن ما هو ليس معروفا ولا مفهوما أن تمر هذه الذكرى عربيا وإسلاميا وكأنها من أحداث التاريخ العابرة غير المؤثرة والمؤلمة لنا, فذكرى النكبة تمثل حدثا صارخا لسرقة وطن وتشريد شعب هما عربيان مسلمان, وبدء صراع شامل مع عدو جاء من كل شتات الأرض ليستوطنه بغير حق, كي يصبح هذا الكيان شوكة في خاصرة الأمة العربية والعالم الإسلامي لإشغالنا بصراع دائم ومستمر حتى لا نتفرغ لمشاريع نهضة وتنوير وتطوير.
المؤسف والمحزن أن هذه الذكرى مرت في ظل صمت عربي وإسلامي كاملين, فلم نر أو نسمع إلا صوت وفعاليات الشعب الفلسطيني في أرضه المسلوبة أو المحتلة أو المحاصرة وحيدا يستذكر ويذكر بهذه الجريمة الكبرى في عامها الـ 62, وكأن القضية قضية فلسطينية معزولة عن أمة بعمقيها العربي والإسلامي, فيما كانت مناسبة وخاصة في ظل هذه الأجواء الضبابية, أن تستثمر من خلال ممارسة ضغط معنوي على الأقل على كيان العدو حين نحولها من ذكرى ''استقلال'' مكذوب ومدعى إلى ذكرى جريمة عصر ارتكبت في حق العرب والمسلمين في فلسطين, التي ما زال الشعب الفلسطيني يدفع ثمنها, لكن بثبات وصبر وتحمل, وهو يتشبث بتراب وطنه على الرغم من الاحتلال والاستيطان، وبحق عودة فلسطينيي الشتات الذي هو مطلب كل فلسطيني هجر عن أرضه قسرا ولا يرضون عنه بديلا، فصمود الشعب الفلسطيني تحديدا، وليس قياداته التي تفرقت بها السبل بكل أسف بعد رحيل أبو عمار - رحمه الله - الذي كان يمثل رمزاً للقضية وللصمود, والذي كان يتفق عليه الجميع بالمقولة الفلسطينية عنه ''نختلف مع أبو عمار ولا نختلف عليه''، هو الذي ضمن وحقق بقاء القضية حية في وجدان كل عربي ومسلم، وأجبر العدو من خلال انتفاضتيه على الاعتراف بالشعب الفلسطيني، بعد أن كان ينفي وجوده بمقولته الكاذبة بأن فلسطين أرض بلا شعب.
نعود لذكرى الجريمة التي يلفت النظر فعلا فيها غياب الإعلام العربي عنها، ففي الوقت الذي كان يجب فيه على إعلامنا كله أن يجند طاقاته بإفراد برامج حوارية ووثائقية تسلط الضوء على القضية في واقعها الحالي, ومنه معاناة الشعب الفلسطيني، وعرض مجريات الصراع منذ بدايته، وكشف ما تعرض له الفلسطينيون من تهجير وترويع وعمليات إبادة لإجبارهم على ترك وطنهم، وجدناه خالياً إلا من نقل لأخبار الفعاليات الفلسطينية بهذه المناسبة كأي خبر في ثنايا النشرات الإخبارية بمعزل عن مضمونها العربي والإسلامي، وهو ما يكشف ـ وبكل أسف ـ أن إعلامنا العربي, الفضائي خصوصا, وهو يرفل بحرية واستقلالية لم يحظ بهما سابقا، أصبح شبه محايد بداعي الموضوعية في قضية الموضوعية الحقيقية فيها هي الالتزام بقضايا وهموم الأمة، وعلى رأسها قضية فلسطين بكل أبعادها الدينية والتاريخية والمستقبلية.
إن ذكرى النكبة مهمة لشحن ضمير الأجيال الجديدة بالقضية حتى تبقى حية، وحتى لا تطمس معالمها مشاريع سلام وهمية تريد تحويل الصراع من صراع وجود، إلى خلاف على حدود يحل على طاولة مفاوضات لم يجن منها شيء حتى اليوم.