بانوراما التمويل في المملكة .. والدور الحكومي
بداية ونحن نحتفل اليوم بالبيعة المباركة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، نود أن نرفع أسمى آيات التهنئة لأنفسنا أولا وللقيادة على شخص وشخصية مثل والد الجميع في المملكة والإنسانية عموماً. وأعتقد أن التحديات التي عاشها العالم خلال فترة الخمس سنوات منذ توليه، رعاه الله، مقاليد الحكم وحتى تاريخ اليوم المصادف 26 جمادى الآخرة 1431هـ، الموافق 09 حزيران (يونيو) 2010م، كانت تحديات كبيرة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو حتى الدور الإنساني للمملكة في التعامل مع كل الأزمات الطبيعية وغير الطبيعية التي مرت بها البشرية وطريقة تعاطي الملك عبد الله بن عبد العزيز شخصياً مع تلك الأزمات. والجميع يشهد بالحراك الكبير محليا وخارجياً على الأصعدة كافة، حتى أن الجميع يشعر أننا نسابق الزمن في تحقيق الإنجازات، لأن عالم اليوم يتحرك ويتقلب بسرعات عالية، وعلينا أن نكون في مستوى تلك السرعات، وإلا أصبحنا متأخرين بل متخلفين عن الركب. وأكاد أجزم أن الملك عبد الله بن عبد العزيز قد يكون محبطا في بعض جوانب إنجازات المملكة اليوم بسبب أن طموحه يفوق المنجز حتى اليوم وحتى قدرات بعض المسؤولين الذين لا يزالون يفكرون بطرق تقليدية لزمن غير تقليدي! وذلك بسبب أن لا شيء ينقصنا في المملكة لنسابق الجميع وفي كل المجالات، لدينا المال ولدينا الكفاءات البشرية، ولدينا الإرادة ولدينا الشباب وهو وقود كل تنمية. وهو ما أكد عليه الملك في أكثر من مناسبة بأن الإمكانات متوافرة ولله الحمد.
تحدثنا في الأسبوع قبل الماضي (الأربعاء 12 جمادى الآخرة 1431 هـ، الموافق 26 أيار (مايو) 2010 العدد 6071) تحت العنوان أعلاه نفسه عن تاريخ وتركيبة التمويل في المملكة، وقلنا إنه توجد أربعة مصادر لهذا التمويل منها ثلاثة رئيسية وواحد يعتبر حديثا نسبياً وبحاجة إلى وقت أكثر وتنظيم أوضح. وقلنا إن المصدر الأول يأتي من التمويل الحكومي ممثلا في صندوق الاستثمارات العامة والصناديق التنموية الأخرى، وقد اقترب حجم هذا التمويل ‘’القائم’’ منه من نحو 600 مليار ريال. والمصدر الثاني من القطاع المصرفي الذي تجاوز حجم التمويل ‘’القائم’’ منه اليوم 750 مليار ريال. أما المصدر الثالث للتمويل وهو مصدر يعد غير رسمي، وإن كان في بعض فروعه ‘’نظاميا» معنى أنه مرخص له. وهو ما أصبح يعرف اليوم بقطاع التقسيط والبيع بالآجل. وقد رجحت في دراسة سابقة أن حجم التمويل من هذا المصدر يتجاوز 100 مليار ريال (متحفظ جداً). وإذا ما تمت إضافة البيع بالآجل نجد أنه قد يتجاوز 150 مليار ريال على 200 مليار ريال فيما يتجاوز عدد اللاعبين حسب بيانات وزارة التجارة 380 شركة تقسيط! وقلنا إن جل هذا التمويل إن لم يكن كله يذهب لأغراض استهلاكية وليست إنتاجية. هذا ما تم طرحه في المقال المشار إليه.
وقد كان الهدف هو تمهيد لسلسلة من المقالات تحت العنوان نفسه بهدف تسليط الضوء على قطاع التمويل في المملكة للوصول إلى هدف أهم وهو تقديم بعض المعالجات الضرورية لمستقبل التمويل من كل مصدر من مصادر التمويل لدينا، والذي يتسم لدى كثيرين بالضبابية وعدم الوضوح مما يسبب إرباكا عاما لكثير من قضايا التمويل، خصوصا والعالم يمر بأكبر أزمة مالية في تاريخه منذ ما يزيد على 80 عاما. ولكل تلك الأزمة رغم التفاصيل الكثيرة حولها كان محورها وأسبابها نتيجة إدارة التمويل سواء على المستوى التنظيمي أو على مستوى التطبيق من قبل اللاعبين في هذا القطاع.
ومما يؤكد أهمية التوضيح والإيضاح في هذا الموضوع أن إعلامنا الاقتصادي المتخصص والإعلام غير المتخصص أيضا وخلال السنوات من 2004م إلى 2010م، طالب وما زال يطالب بالشيء ونقيضه في موضوع التمويل! كيف ذلك؟ عندما حدثت أزمة سوق المال (الأسهم)، صب الإعلام جام غضبه على القطاع المصرفي لتوريط «تمويل» المواطنين في القروض للدخول في سوق الأسهم، وكانت اللغة بالغة القسوة على القطاع المالي! ونسينا أو تناسينا أن هناك من أخذ قروض صندوق التنمية العقارية ووضعها في سوق الأسهم، وباع جماله ودخل في سوق الأسهم! فهل يلام صندوق التنمية العقارية على إعطاء المواطن قرضا سكنيا ليذهب به إلى سوق المال؟
أما في السنتين الأخيرتين فتغيرت اللغة تماماُ حيث أصبح الغضب يصب على القطاع المالي لشح التمويل المقدم للمواطنين والشركات! ولدي قصاصات لكتابات للكُتاب أو المحررين أنفسهم طالبوا بشيء ونقيضه في موضوع التمويل! بينما القصة ليست بهذا الشكل وقضية التمويل أعقد من هذا التبسيط! وسوف أشرحها بشكل تفصيلي في هذه السلسلة من المقالات إن شاء رب العالمين.
المصدر الأول وهو التمويل الحكومي، حيث بلغ حجم التمويل الممنوح منه ما يقرب من 600 مليار ريال مشكلا ما نسبة 44.4 في المائة من إجمالي المصدرين الرئيسيين الحكومي والقطاع المصرفي الذي يتجاوز 1350 مليار ريال. ويتشكل هذا المصدر المهم والرئيسي من ست جهات تمويل أو صناديق حكومية مملوكة بالكامل للحكومة يأتي على رأسها صندوق الاستثمارات العامة (1391هـ)، وصندوق التنمية الصناعية (1494هـ)، ثم الصندوق السعودي للتنمية (1494هـ)، صندوق التنمية العقارية (1494هـ)، البنك الزراعي العربي السعودي (1382هـ)، والبنك السعودي للتسليف والادخار (1391هـ). وقد أنشئت خلال العقد الأخير مجموعة من الصناديق الجديدة ذات الطبيعة الخاصة مثل صندوق المئوية (1419هـ) وصندوق الخيري الاجتماعي (1423هـ)، وصندوق تنمية الموارد البشرية (1421هـ). وكل من تلك الصناديق له أهداف محددة حسب قرارات إنشاء تلك الصناديق.
السؤال الرئيسي الآن، هل قامت تلك الصناديق بالدور المطلوب منها، سواء القديم والحديث من تلك الصناديق؟ هل ساعدت على تحقيق أهداف التنمية التي من اجلها أنشئت تلك الصناديق؟ وهل هناك حاجة اليوم إلى إعادة تقييم تلك الصناديق والدور الذي تقوم به وربط ذلك الدور بأهداف التنمية الأربعة عشر الجديدة؟
أسئلة في ظني أنها مهمة وتوقيتها مناسب، لعدد من الأسباب أهمها أن العالم يمر اليوم بمرحلة مفصلية من تاريخ الاقتصاد العالمي ونحن جزء رئيسي، بل وفاعل من خلال المشاركة في قمة العشرين وزيادة التوقعات من المجتمع الدولي حول الدور السعودي المأمول في المشاركة في تشريع وتنظيم قطاع التمويل عالمياً بعد أن ينقشع غبار الأزمة وتتضح الصورة، حيث لدينا تجارب ثرية، ولا أريد أن أقول إنها نموذجية قبل أن نستعرض كل بانوراما التمويل في المملكة ثم بعد ذلك نستطيع أن نحكم على هذه التجربة. السبب الثاني لأهمية تلك الأسئلة هو التغير في أهداف التنمية، فالمواطن والقطاع الخاص لم يعد ذلك المواطن والشركات التي كانت في بدايات خطط التنمية وبالذات أوائل السبعينيات الميلادية! وإن كانت اللغة المستخدمة اليوم من القطاع الخاص والمواطنين لا تزال لغة السبعينيات الميلادية! والسبب الثالث هو تغير الدور الحكومي كلاعب في الدورات الاقتصادية للمملكة لأسباب عديدة وهو ما زال في حالة حراك وتغير من سنة إلى أخرى.
كل ذلك يجعلنا نقول إن هذه الأسئلة يجب أن تناقش بشكل مسهب حتى نستطيع عملياً وليس نظرياً التطور بما يتماشي مع التحديات الدولية والمحلية. وسوف نناقشها في المقالات القادمة بإذن الله حيث مساحة المقال لا تسمح بأكثر من ذلك. والله من وراء القصد.