متى نتوسّع ونتعمّق في مراكز البحث؟

لاحظت من خلال متابعة ما يصدر عن إسرائيل من معلومات أن الشق الأكبر يصدر عن مراكز بحث أو معلومات. ويعكس هذا تغيرا جوهريا في أساليب الدعاية الصهيونية. لأنه عندما نرجع المعلومة إلى مركز بحثي ينطوي عمله على البحث والفحص والتمحيص فإنها تكون أكثر مصداقية من إرجاعها إلى كاتب أو سياسي أو رأي صحافي.
ومن أبرز مراكز البحث الإسرائيلية مركز بيجين - السادات والمراكز الملحقة بالجامعات الإسرائيلية، ويقابلها لدينا أعداد أقل وبإمكانات مادية أضعف، مما يؤكد أن حربنا في هذه الساحة ستكون خاسرة ما لم نسرع الخطى.
حادث أسطول الحرية كان مناسبة رائعة لاستنهاض همم مراكز البحث ولفضح إسرائيل متلبسة بجرائهما أمام العالم الذي أصبح لا يصدق إلا ما يرد إليه عبر قنوات بحث مقنعة، تقدم بحوثا تقوم على تجميع مادة سليمة وتحسن معالجة هذه المادة بالأسانيد والمقارنات وبالتحليل المنطقي الذي يستقطب العدو والصديق.
والمؤسف أن المقارعة بالحجة العلمية من خلال مناهج البحث التي تتبناها مراكز البحث هي الأمل الوحيد الباقي في حربنا ضد إسرائيل. فالمعلوم أن المواجهة العسكرية أصبحت أمرا بعيد الاحتمال بسبب ظروف كثيرة. ولكن التحدي الحضاري والصراع الثقافي والتنافر المتأصل سيبقى. وما زال البعض يعتقد أن البلاغة والمقالات النارية هي السبيل للمواجهة، ولكن التجربة علمتنا أن ما يبقى برأس وفكر الساسة والصحافيين هو المهم والشق الأهم هنا هو ما يرسخ في عقول هؤلاء من جراء متابعة الموضوعات والدراسات والبحوث الموضوعية، التي تعتمد على الإحصائيات والأرقام والحقائق. وتبتعد عن الأساليب العاطفية. من هنا أصبحت المراكز البحثية ضرورة حتمية وأولوية كبرى.
إذا انتقلنا إلى الجانب الآخر من المتابعة البحثية، سنلاحظ أن سفارات الدول العظمى نقلت اهتمامها من المتابعة الإعلامية لما يجري في البلد المستهدف، إلى إنشاء مراكز بحثية. وإلا فما السبب من وجود آلاف الموظفين في السفارة الأمريكية في القاهرة وتوابعها. وهؤلاء منهم من يتخصص فقط في استخلاص المعلومات عبر البحث، ويحتفظون بعلاقات عمل وتبادل وثيقة للحصول على أصدق المعلومات وأحدثها، ومن ثم يعدون بحوثا حسب أولوياتهم. وقد صرح أحد الدبلوماسيين في حفل توديعه لمغادرته العمل في القاهرة بأنه مدين للباحثين أكثر من أي زملاء آخرين، فهم الذين نقلوا عقله وأسلوب تفكيره إلى المنهجية الصحيحة وهم الذين صنعوا معظم ما برأسه من معلومات ومن ثم كان لجهدهم أكبر الأثر في تشكيل تقاريره ومن ثم قراراته وقرارات حكومته.
وارتباطا بمعاناتنا التاريخية وتخلفنا في العديد من المجالات، كان لأعدائنا قصب السبق، وكعادتهم استغلوا هذه الساحة التي تحظى بالاحترام لتعبئة أفكارهم عنا وصنع صورتنا من خلال تركيز منهجي على قطاعات كثيرة في أنماط سلوكنا ومجالات عملنا وساحات أنشطتنا. وأصبح المفهوم السائد لدى معظم دوائر الغرب نتاج هذه المراكز العبرانية. وعلى الجانب الآخر نجد الأموال المخصصة للبحوث في العالم العربي لا تكاد تذكر، ولا يخجل كثير من المسؤولين عن ترديد مقولة «عدم جدواها»، وهو أمر مؤسف لأننا حتى وإن بدأنا بمراكز قليلة العطاء وضعيفة التأثير، فإننا يمكن أن نتناولها بالتطوير والتحسين لتنمو وتكبر ونتعهدها بالدعم حتى تؤتي ثمارها وتصبح لها مكانتها. عندئذ سيهرع العدو والصديق إليها للتعرف على ما تقدمه من معلومات وأبحاث. وصانع القرار يهتم دائما بالوثائق والوسائل العلمية، ويحرص على متابعة التقارير الدورية لمراكز البحث التي تتمتع بسمعة علمية طيبة.
وثمة نقطة جديرة بالاهتمام وهي أن شبكة المعلومات الدولية أصبحت المصدر الأكبر للمعلومات، مما يعني تضاؤل دور وسائل الإعلام التقليدية وتعاظم دور البحث العلمي.
والمطلوب تنويع المراكز البحثية من حيث نوعية مجالاتها ومنهجيتها وتخصصها حتى لا تصطدم ببعضها البعض ويحدث بينها تداخل يهدد الهدف الذي تقام من أجله. ومن أهم المجالات المقترحة للبحث العلمي ما يلي:
* قضايا الأمن والاستقرار الإقليمي.
* الندوات والمؤتمرات المتخصصة وحلقات النقاش.
* الإصدارات والمطبوعات.
* الملفات الشاملة (علاقة إسرائيل بتركيا)، علاقة «إيران بالعراق».
* الدراسات الأكاديمية التحليلية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.
* تقارير الموقف.
* البحوث المستقبلية التي تتناول التطورات والتوقعات.
وقد يكون من المناسب أن ترتبط بعض هذه المراكز بالجامعات للاستفادة من الكوادر البشرية والإمكانات العلمية من مكتبات ومراكز ومعلومات ولا يمكننا إغفال حقيقة متابعة العدو لما يصدر عنا، وإذا استشعر أن صانعي القرار على اطلاع بما تنتجه مراكز البحث فسوف يضع ذلك في حساباته، لأن المراكز الناجحة تصنع أجيالاً من العقول التي تفكر بمنطقية يمكنها كسب المعركة السياسية.
وبديهي أن تتسم المراكز بالحيادية والبعد عن ضيق الأفق المحلي الذي يحولها إلى مراكز ضخ منشورات دعائية. فالمستهدف من وراء مراكز البحث هو تغيير بطيء للاتجاهات وتدمير منظم للعداء الطائش وتشجيع على القراءة المتوازنة التي تؤدي عادة إلى اتخاذ قرار موضوعي.
ويجدر بنا أن نتوقف أمام الكوادر المؤهلة للبحث العلمي فلا بد أن يتم اختيارهم من بين كوادر مؤهلة، وأن يتم تقسيم العمل في مثل هذه المراكز على تخصصات مختلفة ومهمة بالنسبة لأهداف المركز.
وإذا كان الشيطان يعيش في التفاصيل، فإن مهمة مراكز البحث العمل في التفاصيل لإبعاد الشيطان عنها، وتبدأ تلك العملية بالتجميع الشامل لكل المعلومات المهمة لتصبح مادة ثرية للباحث، ثم تجري أهم عملية وهي الانتقاء والاختيار حسب الموضوع المحدد، ثم تأتي بعد ذلك العمليات العقلية المهمة من استخراج النتائج وتحقيق المعلومات واستخلاص المواقف.
وتعتمد المراكز دائما على قواعد البيانات التي تكسب المركز رصانة ومصداقية، ومن المراكز ما يعمل بالأسلوب الموسوعي الذي يتناول كل شيء، ومنها ما يقصر اهتمامه على موضوعات بعينها.
وتبقى الحقيقة أن هذه المراكز التي تتعامل مع المعلومات وهي بالمناسبة من أغلى السلع، تحتاج إلى إمكانات مالية كبيرة، فهي ليست أرشيف الجامعة أو مقبرة الأفيال لمن غضبت عليهم الإدارات كما يحدث في بعض الدول، كما أنها ليست مقرا لمن لا منصب له. إنها منارة مهمة وهي مصابيح السيارة إذا كانت السيارة هي الدولة بكاملها. ولعل من أخطر مشاكلنا هو افتقارنا إلى هذه المراكز. إذ يكفي أن نذكر أن مراكز البحث في دول الغرب وإسرائيل تنتظر وقوع حدث مهم لتستنفر كوادرها فتخرج لنا التقارير والكتيبات والبيانات والمعلومات وهي منحازة بطبيعة الحال لمن ينفق عليها، وهذه وحدها خسارة هائلة لنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي