الأسباب الحقيقية لتعثر المشاريع الحكومية! (2)
تحدثت في المقال السابق عن صور التعثر والمعوقات التي تواجه المشاريع الحكومية، وتجعل الاستفادة منها معدومة أو محدودة، وركزت على دور التخطيط والمواصفات وبعدها عن مواكبة التطور الذي يحدث في عالم العمارة والتخطيط، ثم عن الاختلاف الذي يحدث في قيمة المشروع بين عرض المقاول والاعتماد المخصص في الميزانية، ويؤدي إلى حذف أو تأجيل عناصر مهمة من المشروع لا يمكن الانتفاع به بدونها، كما تحدثت عن واحد من العوامل المهمة المسببة للتعثر وهو بيع المشاريع وتنفيذها من الباطن من قبل مقاولين غير مؤهلين!..
واليوم نواصل الحديث عن عامل من أهم العوامل التي تؤدي إلى تعثر المشاريع وهو الإشراف الفني، لأهميته ودوره الأساس في مدى سلامة المشاريع من عدمها، فلا يوجد مشروع إلا ويتم التعاقد للإشراف الفني على تنفيذه، مع جهة غير الجهة صاحبة المشروع، ويتمثل ذلك في أحد المكاتب الهندسية الوطنية، أو المختلطة، وأحياناً الأجنبية، كما يحصل أن تتكفل الجهة صاحبة المشروع بعملية الإشراف بنفسها بواسطة فنيين تابعين لها، وذلك بالنسبة للمشاريع الصغيرة، أو توكل الإشراف لوزارة الأشغال العامة والإسكان، قبل إلغائها، وقبل أربعة عقود تقريباً كان يمنع على أي جهة حكومية توظيف مهندسين، أو إنشاء إدارات للمشاريع، اكتفاءً بوجود مصلحة الأشغال العامة، التي كان اختصاصها يشمل الإشراف على المشاريع الحكومية، في وقت كان فيه حجم المشاريع وعددها محدوداً، لكن مع تطور حجم الميزانية وكثرة المشاريع وتضخمها سمح للجهات الحكومية بتكوين وحدات للمشاريع، وتوظيف المهندسين لهذا الغرض، بعد أن عجزت مصلحة الأشغال العامة عن تغطية الإشراف، مكتفية ببعض المشاريع الصغيرة كالمدارس والمساجد، ومع ندرة التخصصات الفنية الوطنية وعجز الجامعات والمعاهد عن تخريج الأعداد الكافية منها لجأت الجهات الحكومية، ولاسيما التي لديها مشاريع كبيرة، إلى توظيف فنيين غير سعوديين أوكلت إليهم مهمة الإشراف، وكان ذلك سببا فيما أصاب كثيراً من المشاريع من تعثر، لغياب الولاء والحس الوطني لدى كثير منهم!..
فضلاً عن العلاقات الوطيدة التي كانت تنشأ بين مهندسي المقاول ومهندسي مكتب الإشراف في ظل نصوص العقد المستمدة من العقد الموحد للمشاريع، التي تلزم المقاول بتوفير مكاتب ووسائل نقل المهندسين المشرفين، حيث كانت الأمور تبدو وكأن الجهة صاحبة المشروع تشجع قيام مثل هذه العلاقة، التي يؤثر فيها ويقويها حرص المقاول على إرضاء المهندسين المشرفين وإراحتهم، في ظل منفعة متبادلة!..، ولنا أن نتخيل ما يحدث بعد ذلك من تسيير الأمور في اتجاه مصلحة المقاول لتحقيق أكبر قدر من الكسب والإفادة لكل الأطراف، بالتغطية على أي قصور في التنفيذ أو نقص في المواصفات، والشواهد على ذلك كانت ماثلة في انهيار بعض المشاريع أو عدم إكمالها، أو تعطل الاستفادة منها، لظهور عيوب في الأجزاء الفنية منها كالأجهزة الميكانيكية، والمصاعد والتكييف ووسائل السلامة، وغيرها!..
ومع أن نظام المنافسات والمشتريات الحكومية يلزم المقاول بضمان ما يحصل من تهدم كلي أو جزئي في المشروع، خلال عشر سنوات من تاريخ استلامه استلاماً نهائياً، كما تنص مادة (76) منه (يضمن المقاول ما يحدث من تهدم كلي أو جزئي لما أنشأه خلال عشر سنوات من تاريخ تسليمه إياه للجهة الحكومية تسليماً نهائياً، متى كان ذلك ناشئاً عن عيب في التنفيذ)، إلا أن المشكلة لا تتمثل غالباً في التهدم الكلي أو الجزئي الذي يقتصر ظهوره على المشاريع الإنشائية، إذ إن المشاريع الحكومية تنوعت وتعقدت بحيث يدخل العامل الميكانيكي والتقني في أجزاء كثيرة منها، وقد يكون المشروع بكامله تقنياً، كمحطات الطاقة والتحلية والمعامل، والعيوب في مثل هذه المشاريع لا تظهر إلا بعد الاستلام النهائي لها، ووضعها قيد الاستخدام، وإخلاء ساحة المقاول، ومن ثم فإنه لا يمكن حصر العيوب في التهدم الكلي أو الجزئي!...، لأنه لا يحصل تهدم في مثل تلك المشاريع، بل عيوب فنية تعوق الانتفاع بالمشروع وتحد من كفاءته التشغيلية، وهذه المسألة غفل عنها نظام المنافسات والمشتريات الحكومية، الذي قصر الضمان على ما يحصل من تهدم، كما رأينا!...
إن سوء حالة المشاريع وتعثرها، وعدم الاستفادة منها، معزوّ، في جوانب كثيرة منه إلى ضعف الإشراف الفني، من قبل الجهة المشرفة، سواء كانت مكتباً خارجياً، أو الجهة الحكومية ذاتها، وكثير من الجهات توكل أمر الإشراف إلى المكتب المشرف، ولا يكون لها دور فيه، حتى من ناحية المتابعة الميدانية للتأكد من سير تنفيذ المشروع، كما أن كثيرا من المكاتب الهندسية يوكل الأمر إلى فنيين غير أكفاء، أو ضعيفي الذمة والأمانة، فيتم التواطؤ بينهم وبين المقاول مقابل استفادة الكل، ومن ذلك ما يحدث من كثرة أوامر التغيير التي تصدر للمقاول، بتبرير منهم، لتبديل بعض المواصفات، أو تغيير بعض المواد، أو زيادة الأعمال، وكلها تصب في مصلحة المقاول، إما لزيادة قيمة العقد، أو تبرير التأخير الذي يحدث في التنفيذ، ومنح المقاول مدداً إضافية من أجل إعفائه من غرامات التأخير!...
وينسحب الكلام ذاته على عمليات الاستلام الابتدائي والنهائي، من حيث التبرير والتواطؤ، رغم أنه يشارك في لجان الاستلام النهائي مندوبون آخرون مع منسوبي جهة الإشراف، لكن غالباً لا يتم إثارة ملاحظات جوهرية، بسبب جهل بعض أعضاء اللجان بالنواحي الفنية، وعدم استطاعتهم، من ثم، اكتشاف ما يكون هناك من عيوب فنية، لصعوبة ذلك بعد إتمام التنفيذ، وطمر أجزاء من المشروع في باطن الأرض، وهو ما يؤدي في النهاية إلى التسليم بما يقوله منسوبو جهة الإشراف!..
يضاف إلى تلك العوامل والأسباب عامل آخر مهم وهو غياب الإشراف والرقابة الخارجية المستقلة على المشاريع، ويقصد بذلك الرقابة التي تمارسها جهة مستقلة عن الجهة الحكومية تختص بالرقابة على أموال الدولة، مثل ديوان المراقبة العامة، وهيئة الرقابة والتحقيق، لأن ممارسة مثل هذه الرقابة تتطلب وجود جهاز فني متخصص، وهو ما تفتقر إليه الأجهزة الرقابية لدينا، بيد أنه يمكن ممارسة هذا النوع من الرقابة عن طريق الاستعانة بالمكاتب الهندسية المتخصصة، أو كليات الهندسة في الجامعات، كما تفعل أجهزة الرقابة في بعض الدول، وهو أمر نراه أجدى وأقل تكلفة من توظيف الجهاز الفني!..، وأستطيع القول إن غياب الرقابة الخارجية المستقلة على المشاريع يعد سبباً رئيساً لما يحدث من تعثر وسوء تنفيذ، ولو وجدت مثل هذه الرقابة فإنه يصعب أن تتحد توجهات كل من المقاول والمشرف، ومعهم مسؤولو الجهة، على التواطؤ للإضرار بالمشروع، طالما علموا بوجود الرقيب الخارجي القادر على منع وقوع الخلل وكشفه بعد وقوعه!..
وحتى أنهي الحديث عن موضوع الإشراف، ألخص ما أراه من حلول في الآتي:
1- الحرص على اختيار المكتب الهندسي ذي الكفاءة الفنية والخبرة والسمعة الحسنة، وخاصة أن حرية الاختيار متاحة للجهة الحكومية، ولا يخضع ذلك للمنافسة العامة، كما هو حال المشاريع.
2- متابعة العمل إدارياً وميدانياً من قبل الجهة التابع لها المشروع، للتأكد من سيره وفق البرنامج الذي يقدمه المقاول وتوافق عليه الجهة، والتأكد كذلك من أن المهندسين المباشرين لعملية الإشراف يحملون المؤهلات والتخصصات ذاتها التي قدمها المشرف في عرضه، لأنه يحدث غالبا إبدالهم بمن هم أقل كفاءة وتكلفة رغبة في التوفير.
3- لا بد من وجود رقابة خارجية مستقلة من قبل أجهزة الرقابة ولاسيما بالنسبة للمشاريع الكبيرة، للتأكد، على الأقل، من توافق تنفيذ المشروع مع البرنامج المعد له، والاستعانة في بعض المشاريع بجهات خارجية لفحص الجوانب الفنية!..
4- محاسبة كل من يثبت تهاونه، وتواطؤه أو تقصيره في أداء المطلوب منه، سواء المقاول، أو جهة الإشراف، أو موظفي الجهة، والمبادرة إلى إبعاد أي فني أو مهندس يتبين تقصيره من المشروع، قبل أن يتسبب في إفساد غيره.
5- تعديل نص المادة (76) من النظام بحيث يكون النص مغطياً للجوانب الفنية والعناصر التي يضمنها المقاول غير مسألة التهدم الكلي أو الجزئي. وفي المقال القادم نتابع.
والله من وراء القصد