التحليل المالي بين زئير الأسود ونعيق الغربان
معظم القنوات الفضائية والأرضية تعمل بكل ما أوتيت من طاقة لصنع برامج مميزة لجذب أكبر عدد من المشاهدين، وهذا حق مشروع لصناعة إعلام جاد ومحترف ومنافس، مثلها في ذلك مثل وسائل الإعلام الأخرى المقروءة والمسموعة والإلكترونية، التي تنافس بعضها, إضافة إلى منافستها مثيلاتها داخل كل صناعة متخصصة.
إن أهمية الإعلام في التأثير في مجريات الاقتصاد ظاهرة لا ينكرها إلا جاهل، لذلك يجب أن نوليه ما يستحق وأن نتعامل معه بجدية لا هزل معها، فتصريح مسؤول ربما يرفع السوق المالية إلى الأعلى، وتصريح محلل مالي ربما يدمي السوق، وإعلان مغلوط ربما يعكس حقائق السوق، وتلميع لإنجازات شركة أو عدم الإفصاح عنها سيقلب نتائج تعاملات المتعاملين رأساً على عقب.
ومع الأسف, فإن طغيان الإعلام الاقتصادي على كثير من الحقائق وصف صحيح لحقيقة مرة، تدعم ذلك حداثة عهدنا كمتعاملين بالأسواق المالية، ومراهقة تعاملاتنا المالية بصفة العموم، والطفرة التي دهمتنا فصنعت مليونيرات السوق إضافة إلى مديونيراتها، وكانت وما زالت سوقنا المالية تتأثر بأحاديث الخبراء، لكن التأثير تم ولم يفرق بين زئير الأسود ونعيق الغربان، وكانت أهم وسائل توجيه السوق رسائل الجوال ومواقع الإنترنت, إضافة الى نشرات الأخبار والبرامج الاقتصادية التي كانت تلعب دور السلطة الرابعة باقتدار.
أتابع عديدا من الفضائيات الاقتصادية والإخبارية، إضافة إلى الصفحات الاقتصادية في صحفنا اليومية، التي لا شك استطاعت أن تستقطب مجموعة متميزة من المحللين والكتاب والصحافيين ومقدمي البرامج، لكن «الحلو ما يكمل»، فحديثي اليوم ليس عن هؤلاء لكن ستجد معهم المتردية والنطيحة وما أكل السبع، وبعض هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون، فلا نزال نتذكر حين كانت السوق في أوج فقاعتها إذا بنا نفاجأ بمن يخرج على المشاهدين وينصح بالشراء، وحين انهارت السوق إذا بنا نفاجأ بنجم آخر يتوقع أن يصل المؤشر إلى فوق 30 ألف نقطة! أي منطق يحرك هؤلاء وأي مصلحة يريدون؟ أين مهنيتهم وأمانتهم مع المشاهدين والقراء؟ بل أين خوفهم من الله؟
لا شك أن وسائل الإعلام تشارك هؤلاء المتعالمين المسؤولية والجرم، وإلا فكيف تسمح بخروج من هب ودب على شاشاتها أو صفحاتها ليعلن جهالاته، أو ليحقق مصلحة شخصية، أو يحقق هدفه بالترزز أمام الآخرين؟
لأسباب عديدة منها كتاباتي الصحافية فإن جوالي لا يكف عن الرنين، والمتصل عادة ممثل لإحدى القنوات الفضائية أو لصحيفة سيارة يطلبون مشاركة العبد الفقير إلى الله في برامج اقتصادية أو التعليق على حركة المؤشر في منتصف النهار أو نهاية التداول، ولأني أعرف جيداً إمكاناتي فإني أعتذر لهم دوماً عن أي تعليق على السوق أو على الحركة على أسهم الشركات، وأضطر إلى الاسترسال في الشرح للاعتذار عن عدم المشاركة بسبب عدم تخصصي في التحليل ونقص المعلومات وقلة متابعتي وعدم ممارستي، الغريب هو الإصرار المستمر في المشاركة حتى بعد الإيضاح، والأغرب طلب الترشيح لمن يمكنه المشاركة دون التثبت من تأهيله ومناسبته لتقديم المعرفة والخبرة للجمهور.
قصة طريفة أشارككم فيها اليوم، حيث اتصل بي مسؤول في إحدى الصحف وطلب مني الإجابة عن سؤال حول أسباب تراجع أسعار بعض الشركات، وبعد الاعتذار بالأيمان المغلظة بعدم قدرتي على تقديم المعلومة المناسبة للقراء، وبعد محاضرة حول الأمانة التي يتوقعها القراء منهم في اختيار الأشخاص المناسبين لأن الجمهور يتوقع أن الصحيفة لن تستضيف إلا الأفضل والأكثر صدقاً مع القراء، المهم في القصة أن مسؤول الصحيفة طلب مني ترشيح أي أحد للإجابة عن الأسئلة، وأحببت أن أختبر الصحيفة فأعطيتهم اسم ورقم جوال قريب لي حديث التخرج، مع الأسف, كانت النتيجة لقاء بمساحة نصف صفحة مع قريبي الذي لم يتجاوز 25 عاماً، مع صورة حديثة للفتى الوسيم، بعد وضع لقب «الخبير» قبل اسمه الثلاثي!
من المهم أن تكون هناك معايير لاختيار من يحلل أو يوجه أو يعطي رأياً في مسألة ما، ومن أهم هذه المعايير:
* المعرفة والعلم.
* الممارسة.
* المهارة العالية في التواصل مع الآخرين.
* القدرة على كسب احترام المتلقي.
* الأمانة في النقل والصدق في النصيحة.
* المنطق في التحليل والتنبؤ.
ومن الأهم أن تضع هيئة سوق المال ووزارة الإعلام وهيئة الصحفيين معايير مناسبة للمحللين الماليين الإعلاميين، وتدريباً متخصصاً لهم، وشروطاً مسبقة لظهورهم، وأقترح دراسة استصدار تراخيص لمن يقوم بالتحليل في وسائل الإعلام، وأعني هنا ما يخص سوق المال (الأسهم والسندات)، وذلك لحساسية هذه السوق وتأثيرها في قطاع كبير من الجماهير من المتعاملين وغيرهم .
أخيراً .. إن واجب المحللين الاقتصاديين ومسؤوليتهم كبيرة أمام الله أولاً وأمام وطنهم ثانياً وأمام المساكين الذين سيتعلقون برقابهم يوم الحساب نتيجة معلومة مكذوبة أو توصية ملغومة أو نصيحة خادعة.