الأسباب الحقيقية لتعثر المشاريع الحكومية! (4)

استعرضت في المقالات الثلاثة الماضية وضع المشاريع الحكومية، وما يعتري تنفيذها من قصور وتعثر وملاحظات تجعل الاستفادة منها ناقصة، أو منعدمة، وقد كانت الأحاديث في المجتمع تدور همساً حول رداءة تنفيذ المشاريع الحكومية والإشراف عليها، وما يعتريها من غش وتلاعب، ثم أصبحت هذه الأمور تقال علنا، ويكتب عنها صراحة في الصحف المحلية، والمواقع الإلكترونية، خاصة بعد أن أسهمت بعض الأحداث في إثبات أن ما كان يشاع أصبح حقيقة، وذلك بفضل رب السماء الذي أذن لها بالهطول، رحمة للعباد بعد طول انتظار، فإذا هي، بفعل تصرفات العباد، وإهمالهم واستهتارهم، تنقلب من رحمة إلى عذاب، ولنا فيما حدث في محافظة جدة، خلال شهر ذي الحجة الماضي، من غرق وتدمير، وانهيارات وتكسير، وما حصل بعده في مناطق أخرى من المملكة، وآخرها منطقة الرياض، لأكبر برهان على أن ما كان يطلق كإشاعة، أصبح يقال عن قناعة!.. وأنه لم يعد ثمة شك في أن مشكلة المشاريع الحكومية قد تحولت إلى معضلة، تحتاج إلى التأمل والتعمق في الدراسة، لمعرفة أسباب الخلل التي أشرت إلى أهمها، والتي أوصلت الوضع إلى الحد الذي صار معه مجالاً للسخرية والتندر والمقارنة والتهكم!..، وبعد ذلك يجري استنباط الحلول وتبنيها، حتى وإن كان فيها ما يؤلم، فالاعتراف بالحق خير من التمادي في الباطل، والنزول إلى الواقع أفضل من النظر إليه من بعيد، ولن تفيدنا مقولات مثل: لا عيوب في الأنظمة والإجراءات، ولا يوجد فروقات، أو النظر إلى ما يكتب أو يقال على أنه إفراز عاطفي مرده التأثر بحالات قليلة أو نادرة!...
وأختم حديثي عن المشاريع بالإشارة إلى خلاصة الانطباعات التي خرجت بها وترسخت لدي من واقع معايشة ومراقبة للوضع عن قرب من خلال خبرات وثيقة الصلة بالموضوع، محاولا وضعها في نقاط لتسهل متابعتها والاستفادة منها لمن يهمه أمر الإصلاح.
1- صحيح ما يقال من أن المشاريع لدينا تكلف أكثر مما تكلفه أمثالها في مكان آخر، للأسباب التي سبق الإشارة إليها، ولكنه أمر لا ينطبق على المشاريع كلها، بل يقتصر على المشاريع الكبيرة، أو ذات المواصفات الخاصة، التي لا يتزاحم عليها عامة المقاولين، لقلة المؤهلين في مجالها، بيد أنه، أي ارتفاع التكلفة ينسحب على كل المشاريع التي لا تطرح للمنافسة العامة، بل يكلف بتنفيذها مقاولون معينون، وبما أن مثل هذه لا تخضع للمنافسة فإن تكلفتها تحدد إما بالتفاوض بين المقاول والجهة المالكة، أو أنها تنفذ بالتكلفة مضافاً إليها الأرباح التي يضعها المقاول (cost pluss) وكلا النوعين من المشاريع ينفذ بتكلفة أعلى بكثير مما يمكن تنفيذه به في بلد آخر، أو مما لو نفذ به عن طريق المنافسة العامة، وبلا شك فإن مثل هذه المشاريع تستنزف من الأموال ما كان يمكن توفير بعضه لو أحسن التصرف والحرص على حفظ المال العام!..
2- إن معظم المشاريع يتسلل إليه الفساد في مرحلة أو أكثر من مراحل تنفيذه، ومن خلال عنصر أو أكثر من عناصره، ولا يوجد مشروع يكون بمنأى عن هذا الأمر، إلا ما ندر، وما لا حكم له، والفساد أنواع لكن الذي يطغى في المشاريع هو المادي، والرشوة المتمثلة في المادة التي تدخل الجيوب بعيدا عن العيون، أي الفلوس التي تضعف النفوس، وتنسيها كل شيء، إلا من عصم، وهم قليل!..، والرشوة يمكن أن تأتي في صورة مقابل لتسريب المعلومات، في مرحلة تقديم العروض، أو في مرحلة الترسية والمفاضلة، أو في تواطؤ المشرف على التنفيذ، أو في التغاضي عن النواقص وتبديل المواد أثناء التنفيذ، وفي مرحلة التأخير وتبريره للإعفاء من غرامات التأخير، ودمدمة الملاحظات أثناء عملية الاستلام، ولا ننسى الأعمال التي تقع ضمن صلاحيات التأمين المباشر فهي مجال خصب للتعدي على المال العام!..، وغير ذلك كثير مما لا يمكن أن يستشعره المسؤول الجالس في مكتبه والماء يجري من تحته!..، وقد كشفت فاجعة سيول جدة من أساليب التفنن في التلاعب، وبيع الذمم، والتخلي عن القيم، ما لا يمكن أن يخطر على بال.
3- إن الفقر واتساع مظلته لتشمل فئات جديدة من المجتمع، واستشراء ظاهرة الجشع والطمع، والتقليد والمجاراة، وقبل ذلك ضعف التمسك بأواصر الدين، وتخلخل القيم، واختلال موازين العدل والأمانة، وانتشار أساليب الغش والخداع والكذب والتدليس، هو ما يعزى إليه ما يصيب المشاريع الحكومية من حال التردي التي وصل إليها الوضع، فرغم أنه لا يوجد دولة نامية تخصص من الأموال ما تخصصه المملكة للمشاريع التنموية، إلا أن الناتج منها لا يكافئ ما خصص!..، وكثيرا ما تأخذك الدهشة عندما تكون في دولة أخرى (نامية أيضا) وترى مشروعا يأخذ إعجابك، وتتمنى أن يكون في بلدك مثله، وعندما تسأل عن تكلفته وتعرفها تعقد الحيرة تفكيرك لعلمك أن في بلدك مشروعا كلف ضعف ما كلف ولم يبلغ ما بلغه، وما ذلك إلا بفعل التكالب على المشاريع الحكومية!..
4- إن غياب الرقابة الفاعلة هو ما سمح بتمرير التلاعب والعبث، وحتى لو وجدت الرقابة فإنها إذا لم تقترن بتطبيق عقوبات تردع وتضمن عدم التمادي والتكرار فإنها سوف تكون محدودة الفائدة، والملاحظ هو ضعف الرقابة التي تمارس على المشاريع، أو عدم وجودها أصلا، كما هو الحال بالنسبة للرقابة المستقلة، وفي غياب الرقابة يتعذر الكشف عن المخالفات، وتغيب حينئذ العقوبة، ويسيء من يعمل أمانة العمل والواجب. وهذه هي حال المشاريع الحكومية، فرغم ما يقال عما يحدث، لم توقع عقوبات، وتعلن أسماء يتعرف الناس من خلالها على العابثين، ويرتدع بها غيرهم، ويعرف كل متلاعب أنه مهدد بالانكشاف والعقوبة.
5- إن مما يفيد في التعرف على الخلل وتحري أنسب الحلول هو عقد ندوة عامة علمية في مكان مناسب، مثل معهد الإدارة العامة، يجري التحضير لها بأوراق عمل وبحوث حول المشاكل القائمة، ويدعى لها نخب مختارة من ذوي الاختصاص والاهتمام والعلاقة، مثل المهندسين والمقاولين والاستشاريين والمسؤولين من الحكومة، والمهتمين بالشأن العام في البلاد، وبعض كتاب الرأي، تكون مجالا للحوار الحر، وطرح الآراء، وعرض وجهات النظر من كل الأطراف، بحيث تكون ندوة لها طابع الحرية والاستقلالية، بعيدا عن سيطرة أي جهة حكومية، وذلك حتى يضمن لها الخروج بحلول عملية قابلة للتنفيذ.

والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي