«فيفا» وسيادة الدول

على الرغم مما شهدته منافسات كأس العالم لكرة القدم في جنوب إفريقيا من مفاجآت كروية تمثلت في خروج فرق مصنفة بأنها الأقوى والأمكن في اللعبة من الأدوار الأولى بما لا يتناسب مع إنجازاتها وتاريخها الكروي مثل المنتخب الإيطالي بطل كأس العالم الماضية، ومنتخب فرنسا وصيفه من الدور الأول، والإنجليز من الدور الثاني وبهزيمة مذلة بأقدام الألمان، وتساقط المنتخبات الإفريقية الواحد بعد الآخر ما عدا منتخب غانا, الذي حفظ لإفريقيا شيئا من ماء الوجه بخروجه من الدور الثالث وبشرف كروي بعد أن أعيا منتخب الباراجواي القوي في مباراة كانت في متناول يده لولا رعونة لاعبه رقم 3، الذي أهدر ضربة جزاء في آخر دقيقة من المباراة كانت كفيلة بنقل غانا إلى دور الأربعة، وكم سعدت لهدر هذا اللاعب تحديدا تلك الضربة الجزائية الفاصلة, وإن كنت قد حزنت في الوقت نفسه على ضياع الفرصة على غانا، وسبب ذلك أنه ما زال عالقا بالذهن تصرف هذا اللاعب المؤذي لمشاعرنا العربية والإسلامية، حين احتفل بتسجيل هدف في كأس العالم الماضية في ألمانيا برفعه علم كيان العدو الصهيوني, وهو يلعب باسم بلده غانا وليس باسم كيان العدو، ولم أبتئس لهزيمة غانا بضربات الترجيح مع تعاطفي معها بسبب قيام بعض المشجعين الغانيين برفع العلم الإسرائيلي في المدرجات لكون لاعبهم المفضل يلعب في أحد الفرق الإسرائيلية، في تصرف أرعن أفقدهم كثيرا من التعاطف العربي معهم.
على الرغم من هذه المفاجآت, التي هي بعض مشوقات اللعبة، يبقى تصرف الاتحاد الدولي لكرة القدم ''فيفا'' بتدخله السافر وغير المقبول في سيادة الدول على شأنها الرياضي محل سؤال وملاحظة.
في هذا المونديال الكروي العالمي، جاء خروج منتخب فرنسا من الدور الأول مدويا على الفرنسيين، خاصة وقد صاحب هذا الخروج فضائح الانشقاق ما بين اللاعبين ومدربهم الذي وصل إلى تلاسن لاعب معه وإضراب بقية اللاعبين عن أداء التمارين، وهذه قضية إدارية ونظامية خاصة بفرنسا، ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة تدخل الدولة الفرنسية لمعالجة الوضع والتحقيق ومعاقبة من أساء التصرف كون المنتخب يمثل الدولة الفرنسية ويلعب بسمعة بلده، وحين تحركت الحكومة الفرنسية واتخذت بعض الإجراءات الطبيعية, التي هي من حق ممارستها سلطاتها وصلاحياتها ومسؤوليتها، أصدر الاتحاد الدولي لكرة القدم تحذيراً عجيباً ومستهجنا للحكومة الفرنسية بعدم التدخل في شأنها الرياضي..! والشيء نفسه حدث مع نيجيريا حين اتخذ رئيسها قرارات عقابية على منتخب بلاده بعد فشله وخروجه من الدور الأول وبأداء هزيل.
هذا يضعنا أمام تساؤل عن مدى الصلاحيات التي أوجدها ''فيفا'' لنفسه بإلغاء سيادة الدول والحكومات على شأنها الرياضي، وتنصيب نفسه وصيا عليها وعلى الرياضة فيها..! فالاتحاد الدولي لكرة القدم مسؤول عن تنظيم اللعبة ومسابقاتها ووضع أنظمتها دون أن يتدخل في حق الدول في اتخاذ إجراء ما في حالات معينة مثلما حدث لمنتخب فرنسا ولردة الفعل النيجيرية على فشل فريقها، فهذا من سيادة الدول والحكومات، وليس من صلاحيات ''فيفا'' وحقه منعها ممارستها كما تمارسه في بقية شؤونها الأخرى، وإذا ترك الأمر لـ ''فيفا'' بإلغاء سيادة الدول على شأنها الرياضي، وفرضه قراراته المجحفة فسيؤدي إلى عزل الشأن الكروي في بلاد العالم عن سيادة الدول، وتنصيب ''فيفا'' نفسه الحاكم الأوحد والمرجع الأول والأخير, والحكومات تتفرج فقط، وهو ما سيؤدي إلى أن تهمل الدول كرة القدم فيها مع منعها من التصرف وكف يدها عن اتخاذ قرارات في حالات الفشل أو التقصير، فالدول الآن مثلا لا تستطيع التدخل في عمل اتحاداتها الوطنية كأن تعزل رئيسها أو تحلها لأسباب هي من صميم سيادتها فيما ليس فيه تعسف ولا تسلط، فكم سمعنا أن ''فيفا'' منع حكومات إصلاح شأن اتحادها الوطني وهددتها بمنعها من المشاركات الدولية، وكأن الشأن الرياضي بمعزل عن بقية شؤون الدول الأخرى، والغريب في ذلك أن الدول وحكوماتها راضية بمثل هذا التدخل في شأنها الرياضي وكف يدها عن حق التصرف فيه كدول ذات سيادة، في حين تقيم الدنيا حين ترفض أي تدخل دولي في شؤون أهم من الرياضية ومما يمس حياة الشعوب وحقوقها السياسية والإنسانية .. تناقض غريب ومفارقة أغرب.
وعلى خلفية كأس العالم لكرة القدم وما تشهده من منافسات انعكست على الإثارة المبالغ فيها من قبل جماهيرها الغفيرة على امتداد العالم وهي تتابع بما وصف بالهوس, المباريات، بدأت تظهر دراسات تحذر من المغالاة في هذا الهوس المتنامي لكرة القدم ولاعبيها عند الجماهير، وقبل النهائيات التي جرت أمس الأول حذرت دراسة علمية من أن الحماسة الزائدة للمباريات الحاسمة والتنافسية قد تتسبب في نوبات قلبية من فرط الحماسة وكتم الأنفاس من الإثارة المبالغ فيها، وهذه قضية تستحق أن تناقش.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي