الضحية البريئة
من الأهمية بمكان أن نفهم العوامل النفسية التي تحكم أكبر قوة في العالم. فنحن مع غيرنا مطالبون بمعرفة الخطوط العريضة التي تسير الأمريكيين، خاصة بعدما خرجوا تماما على مبدأ مونرو والقائل ''أمريكا للأمريكيين'' ويحذر من الاندماج في مشكلات الآخرين.
المؤرخة الأمريكية باترشيا نلسون ليميريك كتبت كتابا أحسب أنه من أهم ما كتب عن حقيقة الأمريكيين وهو ''ثقافة الغزو'' وظاهريا قد يعتقد القارئ أن الكتاب سيعالج حملات أمريكا خارج حدودها بدءا من كوريا وفيتنام وقبلهما المشاركة في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية ضد اليابان والمحور الألماني والإيطالي، ولكنها وجهت جُل همها إلى نشأة فكرة الغزو لدى الأمريكيين، بحيث أصبح مبدأ مونرو أو أية دعوات لإغلاق أمريكا وراء حدودها من قبيل الحرث في الماء.
في فصل كامل بعنوان ''إمبراطورية البراءة'' تقول الكاتبة إن أهم قيمة حركت الأمريكيين هي قيمة وفكرة البراءة. وعندما تحرك المهاجرون الأول نحو الغرب فيما عرف باندفاعة النفط وانطلاقة الذهب، كان يحدو الجميع فكرة مسيطرة هي تحسين أحوالهم والحصول على فرص جديدة وليس كما يتعقد البعض بأنه كان غزوا مدبرا لقتل الهنود الحمر، ورغم الاعتداء على أراضي الهنود واختراق قراهم لم يقصد المهاجرون البيض تدمير الهنود، فهم في مفهومهم عند أنفسهم رواد وليسوا مجرمين. وعملا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة فقد كان السعي الحقيقي وراء الحصول على أراض جديدة بهدف توسيع العالم المسيحي، فالدين كان واجهة غربية دائمة لارتكاب الفظائع (الحروب الصليبية، محاكم التفتيش الإسبانية)، هنا يبرز معنى براءة القصد ويقول للعالم إن المستعمر الأول لم يكن سفاحا ولكنه كان ''مبشرا'' لإنقاذ الوثنيين.
ضربت الكاتبة مثالين: الأول للسفاح الشهير جون ويزلي هاردن وهو مجرم من تكساس قتل أكثر من 20 شخصا، ويبرر ذلك بأنه كان ''بريئا'' ويدافع عن نفسه لأنه جنوبي عانى الأمرين في الحرب الأهلية التي انتهت عام 1868. والمثال الثاني لفريق التبشير بقيادة الأخت نارسيا هويتمان التي قتلها الهنود، وكانت قد تركت موطنها في نيويورك عام 1836، وتوجهت إلى ولاية أوريجون Oregon وأسست بيتا للتبشير وتبنت عددا من الأطفال اليتامى. ولكن الهنود ثاروا عليها وقتلوها مع 14 شخصا آخرين. والمعروف أن البيض حملوا الهنود ثلاث كوارث: القتل، والاستيلاء على الأرض، وأخيرا الأمراض؛ فقد قتلت الحصبة الآلاف من الهنود ولكنها لم تقتل أحدا من البيض الذين اكتسبوا مناعة على مقاومتها. ولذلك تصور باترشيا المبشرة نارسيا بأنها ضحية بريئة ومن ثم فإن الانتقام من الهنود يصبح رد الضحية على المعتدي. وعندما جاءت انطلاقة الذهب وسعى المهاجرون المفلسون إلى صنع حلمهم الأمريكي بادروا إلى الاستيلاء على أراضي الهنود بذريعة أنهم ضحايا الفقر والجوع وقد حضروا إلى بلد وافر الخيرات ومن ثم أصبح من حقهم الاستمتاع على حساب الآخرين ويصدق نفس القول على انطلاقة البحث عن النفط في لويزيانا وكاليفورنيا وتكساس وأزيح الهنود بحد السلاح وتم الاستيلاء على أراضيهم.
وقد زاد الأمريكيين ضراوة، الإحباط الذي شهدوه، فمنهم من بالغ في حفر الأرض حتى أزال القشرة الخصبة ومنهم من اختار مهنة الرعي وكانوا شديدي الاستياء عندما أجهزت ماشيتهم على العشب ومنهم من عمل في التعدين، وكان يروعهم أنهم شيدوا منشآت بل ومدنا لكنها في كثير من الأحوال لم يكن لها الجدوى المناسبة. وكانت هذه أشد الضربات إيلاما بالنسبة لـ ''الأبرياء'' الذين توقعوا كثيرا ولكنهم لم يحققوا أحلامهم.
وسجل علماء الاجتماع أن الضحية الكبرى كانت المرأة التي قادها الرجال إلى أرض خراب، وذاقت فيها الأهوال، هذه المرأة أصبحت تختمر في ذهنها صور الاضطهاد وشعرت بضرورة الانتقام، فأصبح أي عمل عدواني ضد أي مخلوق، نوعا من تحقيق العدالة التي افتقدتها. وقد أجرى بعض الباحثين أبحاثا حول أحوال الداعرات في الغرب واكتشفوا أنهن ذهبن مضطرات لتحقيق دخل يكفل لهن الحياة.
يضاف إلى الشعور بأنه الضحية البريء كان المهاجر ومن بعده خلفاؤه يشعرون بالشموخ والغطرسة على غيرهم لأنهم ''رواد'' وقد ملك هذا الشعور على الأمريكيين فكرهم وما زال يظهر بين وقت وآخر لدى تعاملهم مع الآخرين.
واستعرضت الكاتبة موقف الأمريكيين من الحروب، وكانت دائما ترجع البدايات إلى شعور الأمريكيين بأنهم الضحية البريئة، ففي الحرب العالمية الثانية كان الهجوم الياباني على بيرل هاربر تكريسا لفكرة الظلم الذي تتعرض له أمريكا والذي يحتم رد فعل مماثل، وكانت الحرب الطويلة في المحيط الهادي. أما دخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فكان مرجعه إلى ذلك الشعور بأنها الضحية البريئة، لأن غواصات الأدميرال الألماني دونتر كانت تغرق السفن التي تقترب من الساحل البريطاني، وقد نجح تشرشل في إقناع روزفلت بضرورة استئجار سفن أمريكية، وهو واثق بأنها ستغرق، ومن ثم يفيق الأمريكيون على عقدتهم وهي ''أنهم الضحية البريئة'' وقد تحقق ذلك حرفيا، ودخلت الولايات المتحدة الحرب وفي الجبهة الأوروبية وكانت خير سنة للحلفاء ضد هتلر.
وإذا ذهبنا إلى كوريا سنجد نفس الشعور بأن أمريكا ضحية مستهدفة وبريئة، فقد تسللت القوات الشيوعية لاحتلال كوريا الجنوبية، وكان ذلك يعني ضربة لأمريكا في المحيط الهادي الذي سيطرت عليه تماما بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، وحاربت في كوريا مع حلفاء عديدين وجاء دور وراثتها لفرنسا في فيتنام، ويتساءل المحللون: لماذا اختارت هذا الطريق؟ ولماذا قبلت الصراع؟ يجيب الأمريكيون، بأن العالم استراتيجيا أصبح حدودهم ولذلك فهم الضحية البريئة لأي محاولة في أي وقت من أي جانب يحاول أن يقوى ويتصدر.
ونصل إلى العصر الأحدث، وعندما قام صدام حسين بغزو الكويت شعرت الولايات المتحدة بأنها الضحية البريئة التي يستهدفها صدام، وتم شحن الرأي العام الأمريكي على أن ''رابع جيوش العالم'' يستهدف الأمن والمصالح الأمريكية، فكان التحرك وطرد صدام، ثم بلورت الأمور أكثر وأكثر عام 2003، عندما قامت واشنطن بغزو العراق للاستيلاء على نفطه بحجة أن صدام حسين كان يريد تجويع أمريكا وتعطيشها نفطيا. أما الشبح الأعظم الذي يبقي المؤسسة العسكرية وصناعة السلاح ومصانع ذخيرة نبراسكا، فهو الإرهاب، والإرهاب لدى أمريكا يعني كل من يعارض مصالحها جوهريا، وقد اختارت المسلمين هذه المرة تستفزهم وعندما يردون، تبدأ حملات الاستنفار لأن المسلمين يريدون القضاء على الحضارة الغربية ويستهدفون بأحقادهم الرخاء الأمريكي، ولذلك فإن أمريكا ضحية بريئة يجب أن تهب لنجدة نفسها. إنها قصة مكررة وخطورتها أنها كمنت تماما في نفسية الأمريكيين وأصبح من السهل تحريكها بحملات إعلامية هم فيها بارعون.