أمريكا وثقافة الاستيلاء

يصعب عزل سلوكيات الدول عن المقومات النفسية التي تميز شعوبها، فأوروبا مثلا نشأت على أساس الاقطاعيات والضياع التي يملكها النبلاء، سواء كانوا يحملون لقب لورد أو كونت أو دوق أو إيرل أو أسقف، كما كان الحال في النمسا، أما باقي الشعب فهم العبيد أو الأقنان Serfs. وكان هؤلاء يعملون لمجرد لقمة العيش؛ لذلك عندما قامت الحروب الصليبية لم يكلف الأمر بابوات الحروب إيربان وأنيوسنت وجرجويوس إلا إصدار أوامر ''مقدسة'' لهؤلاء النبلاء أو لملوكهم حتى يتحركوا للاستيلاء على أراضي المسلمين، وتكررت القصة في إسبانيا عندما قامت إيزابيلا وفرديناند بطرد المسلمين من الأندلس. أما الولايات المتحدة فكانت قصتها مختلفة، فقد جاء المهاجرون والمجرمون المحكوم عليهم بالنفي وكل فاقدي الفرص في العالم القديم لإنشاء وطن والحصول على الفرصة التي تمكنهم من تحقيق الحلم الأمريكي.
يقول مؤرخو أمريكا: إن ''العقار'' كان محور الاهتمام بالنسبة إلى الجميع، ولو أن هوليوود أرادت أن تكون صادقة لكانت خصصت 90 في المائة من أفلامها للعقارات. وهنا لن يكون نجوم السينما من أمثال جون واين أو جاري كوبر أو راندولف سكوت أو كلينت إيستوود مجرد مقاتلين أو عاملين في الشرطة، بل كانوا سيمثلون دائما أدوارا على شاكلة محامي عقارات أو مساح أراضٍ أو سمسار. وبذلك كان الصراع سينتقل إلى قاعات المحاكم وتصبح الأسلحة حجج الأرض وصكوك الملكية ليست البنادق والمسدسات''.
ولقد كتب تاريخ الغرب الأمريكي بخطوط رسم الحدود والمطالبات، وكان الجهد الأعظم للناس آنئذٍ هو تقسيم الأراضي وتملكها وحرمان الآخرين منها. ولم تكن هناك طريقة عادلة لتوزيع الأراضي، بل كان السبق والقوة هما العاملين المهمين في هذه اللعبة. وكان الشغل الشاغل للأمريكيين التوسع غربا لا الاستمتاع بما حصلوا عليه كما فعل الأوروبيون.
كان هذا الاستيلاء على حساب الهنود الحمر أصحاب الأرض، فقتلوا قطعان الجاموس التي يعيش الهنود على لحمها ولبنها وجلودها، وأحرقوا أراضيهم وقتلوهم في مذابح رهيبة، خاصة بعد دخول المسدس سداسي الطلقات ومدفع ماكسيم الذي كان يحصد الهنود.
كان الاستيلاء أيضا على حساب مطالبات دول أوروبية مثل إسبانيا التي كانت تطالب بكل ولايات الجنوب تكساس وفلوريدا وكارولينا الجنوبية وكاليفورنيا ونيومكسيكو وغيرها، وفرنسا التي كانت تطالب بلويزيانا ونجح المهاجر الجديد في تحقيق حلمه فتأصلت لديه نزعة الاستيلاء، وبدأ ينطلق خارج أراضيه، فاشتروا ألاسكا من روسيا بثمن بخس وشرعوا في الاستيلاء على جزر الكاريبي وجزر المحيط الهادي، ومنها هاواي على سبيل المثال.
وقد قال توماس جيفرسون، وهو الرئيس الثالث لأمريكا وواحد من أهم حكماء تاريخها: ''إن بلادنا شاسعة، وصالحة للزراعة، فمن يزرع سيكون ضمن شعب الله المختار''.
ومن هنا نمت وتطورت ثقافة التوسع عبر أي فضاء أمام المهاجر، وبناءً على ذلك واجهت أمريكا أكبر نوبة من الفساد في تاريخها، إذ أصبح التلاعب بالصكوك عملية شبه يومية، واختمرت في ذهن كل الطامحين فكرة الحصول على الأرض ''لأن القوة تأتي في ركاب الأرض وتوسيع الملكية''.
وعلى امتداد السنوات الخمسين من 1810 – 1860 كان الكونجرس منشغلا بإصدار قوانين تحاول تنظيم الاستيلاء على الأراضي، وحماية أراضي الذين نجحوا في الاستيلاء عليها، وفي هذا الصدد يذكر للرئيس كوينسي آدامز الفضل في القضاء على فوضى ''وضع اليد'' عندما أمر بقتل مئات من المواطنين المتشردين الذين أرادوا الاستيلاء على بيوت وشاليهات على الساحل. ونواجه حاليا في مصر مشكلة تفاقم الاستيلاء على الأراضي وتمر الحكومة بفترة صعبة في محاولة إعادة الأمور إلى نصابها.
بلغت قوانين الكونجرس 375 قانونا حول الأرض والملكية تحدد مساحات البيع والاختلاف في الأسعار ونظام الدفع وتحديد حقوق خاصة في بعض الولايات. وكانت إدارة الأراضي الأكثر تحملا لأعباء الاختلاف والصراع على الملكية، وتنوعت القوانين بين ''قوانين تملك الغابات'' وقوانين تملك الصحراء وقوانين تملك المناجم. ونظرا إلى بطء إجراءات مسح الأراضي كان المستوطنون يهجمون على الأراضي ويستولون عليها. وقد أدى ذلك إلى مشاكل سياسية، فالبيت الأبيض لا يريد ضرب وقمع المستوطن بالقوة فيما عدا حالة الرئيس آدامز ''ولذلك بالغ المستوطنون في مخالفاتهم'' وتعاظم نفوذ المحامين مما أورث الأمريكيين الشعور بأن أي وثيقة أو وعود أو ادعاء يكفي للحصول على ما يريدون في أي مكان في العالم.
وانعدم تماما التعامل بالعدل والمساواة، وساد مبدأ الحق هو القوة والقوة هي الحق، ومن هنا زاد الأثرياء ثراء رغم أنف القانون. وتبلور حق جديد هو حق احترام الملكية مع عدم احترام الحكومة، وجاء ذلك نتيجة طبيعية للمنافسة والصراع والاتفاق والخوف في آن واحد، وأصبح هناك وثيقة غير مكتوبة تفيد بأن الجميع يمكنهم الحصول على ما يريدون شريطة التكاتف والتفاهم ضد الحكومة.
هذه هي الخلفية التي صنعت العقلية الأمريكية، ومثلما ناقشنا في المقال السابق فكرة ''الضحية البريئة'' التي تعتدي لاقتناعها بأنها ضحية، فإن عقلية الاستيلاء المتعمقة في الوجدان الأمريكي الفردي والجمعي، جعلت أمريكا أكبر صياد للفرص وأكبر معتد على الحقوق. ما علينا إلا أن نتابع أساطيلهم ولماذا تصول وتجول من أجل حماية ما يسميه الدبلوماسيون ''مصالح'' أمريكا. وإذا حللنا التصرفات الأمريكية كافة منذ سنة 1945 وحتى الآن فسنلاحظ أنها باختصار توسع بحري وتجاري من أجل فتح آفاق جديدة، فالنفط على سبيل المثال يجري الحديث عنه وكأنه ملك لأمريكا التي لا ينبغي أن تعطش نفطيا، والمعادن المهمة كافة الثيريوم والبلوتونيوم والألماس وغيرها من حق أمريكا بمنطق حقوق الأرض نفسه على الخريطة الأمريكية، ونظرة في الحرب الكورية وحرب فيتنام والموقف من ألمانيا واليابان، ثم في فترة لاحقة حرب الخليج وحرب العراق وحرب أفغانستان، يقصد من ورائها جميعا تحقيق مصالح واحتلال أراضٍ، ثم حماية هذا الاحتلال بما يضمن بقاء هذه الأرض أو هذه الآبار أو المناجم أو الموانئ تحت السيطرة الأمريكية، فهي وحدها التي تستحق الحصول على كل شيء مثل الثري الأمريكي من بين المستوطنين، ولا يحق لأي دولة أو شعب سواء كان عدوا أو صديقا أو حليفا أن يناقش ما يريده الأمريكي فهو قد تعود أن يحصل على الكعكة.
لذلك لا نرى فروقا في الإدارات الأمريكية فسواء كان جمهوريا أو ديموقراطيا يدرك دائما أنه أمريكي يعيش عقدة الضحية البريئة وفكرة الاستيلاء على أراضي الغير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي