تحذير من مخاطر تواجه الاستثمارات الزراعية في الخارج

دقّت أزمة المواد الغذائية العالمية التي نشبت في عام 2008، ناقوس الخطر بالنسبة للمملكة التي تعتمد على استيراد نحو 70 في المائة من احتياجاتها الغذائية؛ الأمر الذي يجعلها شديدة التأثر بتقلبات الأسعار العالمية للسلع الغذائية وبنقص معروضها في الأسواق العالمية. وازداد اعتماد المملكة على استيراد السلع الغذائية بعدما بدأت بتنفيذ خطة وقف إنتاج بعض المحاصيل التي تستهلك المياه بصورة مكثّفة، وذلك بعد عقود من استنـزاف مواردها المائية غير المتجدّدة. وتحتاج المملكة إلى استيراد نحو 2,7 مليون طنّ من القمح سنوياً، علماً أن هذه الكمية ستزداد لأنّ إنتاجها المحليّ من القمح سيتراجع. كما تحتاج المملكة إلى استيراد ما بين 800 ألف ومليون طنّ من الأرز و6,3 مليون طنّ من الشعير (نحو 45 في المائة من إجمالي صادرات الشعير العالمية). وتبلغ الكمية الإجمالية من مختلف الأعلاف التي تحتاج المملكة إلى استيرادها سنوياً نحو 14 مليون طنّ.
‎وطبقاً للمجلس الاقتصادي الأمريكي ــــــــ السعودي، ظلّت المملكة، للمفارقة، مُصدّراً صافياً للقمح حتى عام 2008، مع أنها من أفقر دول العالم بالموارد المائية المتجدّدة. ولمواجهة تحديات نضوب الموارد المائية والنقص العالمي في المواد الغذائية، أُطلقت مبادرة الملك عبد الله الزراعية لخفض إنتاج القمح المحلي بنسبة 12,5 في المائة سنوياً إلى حين إلغاء هذا الإنتاج تماماً بحلول عام 2016. وفي كانون الثاني (يناير) 2009، دخلت مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي حيّز التنفيذ. وتمّ دعم هذه المبادرة بصندوق استثماري عامّ يبلغ رأسماله ثلاثة مليارات ريال سعودي، وتهدف المبادرة إلى تعزيز الأمن الغذائي السعودي على المدى البعيد من خلال تمكين الشركات السعودية الخاصّة من الاستثمار في مشروعات زراعية في دول أجنبية، تتمتع بإمكانات زراعية أفضل من تلك المتوافرة في المملكة، مثل إثيوبيا وتركيا وفيتنام ومصر وأوكرانيا والسودان.
وتتطلّع المملكة من خلال هذه المبادرة إلى ضمان توفير احتياجاتها من السلع الغذائية الأساسية، مثل السكر والأرز والقمح والشعير وحبوب الصويا والذرة الصفراء، وأعلاف الماشية والحيوانات الأخرى.‎ لكنْ نظرا إلى حجم الاستثمارات اللازمة، قد يحتاج الصندوق الداعم لهذه المبادرة إلى مزيد من الأموال لكي يتمكن من تحقيق الهدف المُعلن والمتمثّل في بناء احتياطي استراتيجي من السلع الأساسية، كافٍ لتفادي أي أزمة غذائية مستقبلية.

وفي الحقيقة، يمثل القمح أكبر محاصيل كازاخستان التي تُعد سادس مصدر للقمح في العالم. لكن خصوبة أراضيها الزراعية تراجعت إبّان الحقبة السوفيتية، الأمر الذي يواصل تأثيره السلبي في الإنتاجية الزراعية للبلاد حتى اليوم. ‎ومع أنّ أوكرانيا توفّر فرصاً للإنتاج الزراعي (الشعير والقمح)، إلا أنها لا تختلف عن كازاخستان من حيث التحديات التي ينبغي على المستثمرين المحتملين أنّ يواجهوها بسبب مشكلات الحكومة والبنية التحتية والشفافية. كذلك الأمر، قد يتمتع السودان بإمكانات زراعية ضخمة لكنْ ينبغي عدم إغفال تحديات البنية التحتية والاستقرار الداخلي والصراع على موارد نهر النيل. لقد اجتذبت تركيا المستثمرين الأجانب بفضل أداء اقتصادها الكليّ واستقرارها السياسي والتقدّم الكبير الذي أحرزته في مجال حكم القانون. وبدأ الانتاج المحلي التركي للقمح أولاً في جنوب شرق تركيا ثمّ امتد إلى مختلف أنحاء البلاد. مع ذلك، تُعدّ تركيا مستوردا تقليديا للقمح الروسي. ومع أنّ تركيا لا تعاني ضعف المحاصيل بسبب الجفاف، إلا أنها تعاني مشكلة غياب أي تسوية قانونية لاستغلال مياه دجلة والفرات من جانب الدول التي يمرّ بها هذان النهران: تركيا وسورية والعراق. ‎
وتكمن جاذبية فيتنام في قدرتها على إنتاج الأرز؛ فهي ثاني مصدّر للأرز ‎في العالم بعد تايلاند. وتُعدّ فيتنام من أكثر الاقتصاديات الآسيويّة انفتاحا ومن أسرع الاقتصاديات نمواً في العالم. ‎أما إمكانات مصر الزراعية، فهي محدودة بسبب قلّة أراضيها الصالحة للزراعة ونموّ سكانها وسوء استخدامها لمواردها المائية. ولا تستطيع مصر إنتاج أصناف الأرز والحبوب التي تحتاج إليها المملكة. أخيراً، ‎تتمتع إثيوبيا بإمكانات زراعية هائلة لكنها تحتاج إلى استثمارات ضخمة في بنيتها التحتية،‎ بالإضافة إلى إعادة تنظيم قطاعها الزراعي بصورة أفضل. ومن دواعي السخرية حقيقةُ أنّ إثيوبيا ‎توصف، في الغالب، بأنها "أغنى دول شرق إفريقيا بالمياه" ‎لكثرة الأنهار (14 نهراً كبيراً) التي تنبع من أراضيها. ‎ولدى إثيوبيا أيضاً أكبر مخزون للمياه الجوفية في إفريقيا لكنها لا تمتلك إلا بضعة أنظمة للريّ. وفي عام 2008، ساهم برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة في توفير الغذاء لأحد عشر مليون شخص في إثيوبيا التي تعاني مشكلتيْن: فشل المحاصيل الزراعية وسوء توزيع الأغذية. في المقابل، هناك ‎دول أخرى ينبغي دراسة إمكاناتها الزراعية بعناية، كالبرازيل والأرجنتين وكندا ونيوزيلندا وأستراليا، لأنه يُمكن التنبّؤ بتصرفاتها المستقبلية وتطبّق‎ حكم القانون ولديها اقتصاديات مستقرة وخبرات زراعية واسعة. ‎
ويبدو أنّ تطبيق مبادرة الاستثمار الزراعي في الخارج لن يكون سهلاً لأنّ مثل هذه الاستثمارات يخضع لاعتبارات سياسية، في الغالب، ولأنّ الأطراف المحليّة قد تعتبر المستثمرين الخليجيين كـَ"مالكين محتملين لأراضيهم". كما أنّ بعض دول إفريقيا جنوبي الصحراء تتحوّل بشكل دوري إلى مستوردين صافين للأغذية، الأمر الذي يُعزز مخاطر الاستثمار في مشروعاتها الزراعية، لا سيما في ظلّ التحوّلات المناخية الحادّة التي يشهدها العالم (إذ سَجّل العالم مستوى قياسياً مرتفعاً خلال النصف الأول من العام الجاري). في الوقت ذاته، قد تحتاج الشركات الخاصّة إلى دعم الحكومات المحليّة لتطوير البنى التحتية. إذ تُقدِّر منظمة الفاو أنّه إلى جانب اعتمادات الميزانيات العامة المخصصة لقطاعات الزراعة، ستحتاج الدول النامية إلى استثمار ما مجموعه 209 مليارات دولار سنوياً في الزراعات الأساسية والخدمات المرتبطة بها، لكي تتمكن من تلبية احتياجات العالم من السلع الغذائية في عام 2050. ولكي تنجح المبادرة الزراعية السعودية، ينبغي على مستثمري القطاع الخاص السعودي أن يحصلوا على معلومات استثمارية دقيقة حول الدول التي يستهدفونها لكي يتمكنوا من اتخاذ قراراتهم، على ضوء الاعتبارات الجغرافية والمخاطر السياسية وحكم القانون والظروف الاقتصادية المحلية وأوضاع البنى التحتية هناك. واضطلعت الحكومة السعودية بدور المسهِّل لدى بعض الدول التي قد تستهدفها المبادرة. وحتى في حال توافر العناصر الآنفة الذكر، لا بد من اختبار هذا النظام أثناء إحدى أزمات الإمدادات الغذائية على المستوى المحلي أو على المستوييْن المحلي والعالمي. فمستثمرو القطاع الخاص الذين يسعون لزيادة أرباحهم قد يفضلون تصدير محاصيلهم إلى الأسواق العالمية على تصديرها إلى المملكة. لذا، ينبغي التحقق من قوّة الإلزام القانوني لاتفاقيات شراء نسَب من الإنتاج ـ التي تُبرم بين منتجي ومشتري الموارد ـ ومعرفة ما إذا كان سيتعيّن على المشتري أنْ يقوم بأي استثمارات مسبقة في أي بنية تحتية. وفي الواقع، تنطوي اتفاقيات شراء نسَب من الإنتاج على مخاطر استثمارية محدودة، لا سيما في الاقتصاديات الناضجة والمتقدمة.‎
وتستطيع المملكة أنْ تدرس أيضاً إمكانية عقد تحالفات إستراتيجية، لا تقوم بالضرورة على أساس المكتسبات المتساوية، مع شركات الأغذية العالمية العملاقة التي تتمتع بخبرات متراكمة على مدى عقود إلى جانب معرفتها الواسعة بالقضايا الزراعية المحليّة على نطاق العالم. وتقدّم هذه الشركات المتعدّدة الجنسيات خبرات هائلة في مجالات التكامل الرأسي والتمويل وبناء القدرات البحثية والتحالفات الإستراتيجية العالمية. وقد يؤدي إبرام مثل هذه الاتفاقيات إلى تسهيل الحصول على أراضٍ زراعية في إفريقيا جنوبي الصحراء وسواها، أو إلى تيسير الحصول على المنتجات النهائية التي تحتاج إليها المملكة.

مدير عام وكبير خبراء الاقتصاديين في البنك السعودي الفرنسي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي