المتدين وإشكالية المرأة (6 من 10)
كثيرة هي المواضيع التي يشتبك بها الإنسان المتدين فكريا وثقافيا مع الآخرين، ولكن لقضية المرأة أهمية خاصة, فهي أولا قضية يحتدم عليها النقاش داخليا, بين المتدينين أنفسهم, فجل مواضيع المرأة مما يختلف عليه، ولا أدل على ذلك من تجدد النقاش حول مواضيع كانت هي نفسها محل نقاش واختلاف لعقود من الزمن, فعمل المرأة وخروجها للمجتمع واختلاطها بالرجل ما زال من المواضيع الساخنة, وولاية المرأة وشكلها وحدودها ما زال هو الآخر محل نقاش حاد, وما زالت المرأة كمخلوق وكإنسان لها ما للرجل من حقوق وعليها ما عليه من واجبات هو الآخر موضوعا يواجه سيلا جارفا من الأسئلة التي تتطلب الإجابة عنها قراءة جديدة ومعمقة لكل النصوص الدينية الواردة بخصوص المرأة. فالمتدين يشكل له موضوع المرأة تحديا كبيرا, فهناك ثقافة دينية تستمد قوتها وشرعيتها من موروث ديني يوحي للآخرين بأن الدين ينتقص من مكانة وإنسانية المرأة، ويوحي أيضا بأن هناك ظلما دينيا لحق بالمرأة بسبب هذه النظرة الدونية لها. فبات موضوع المرأة يشكل تحديا للدين كله لأن الانتقاص من قيمة المرأة هو انتزاع وانتقاص من إنسانية الدين, فالذين ينشغلون بالدفاع عن مكانة المرأة وحقوقها في الدين إنما يدفعهم إلى ذلك ربما خوفهم من أن تمس أهم قيمة في الدين وهي الإنسانية, فالدين إنما جاء ليحفظ للإنسان إنسانيته وليحفظ لهذا الإنسان كرامته.
وإضافة إلى ما يحمله موضوع المرأة من أهمية دينية في ذاته لارتباطه بالجانب الإنساني من الدين إلا أن هناك ظروفا أحاطت بالموضوع وجعلته يضغط بصورة أقوى على الواقع الديني, فهناك واقع ماثل أمام مرأى المسلمين، وهو ما وصلت إليه المرأة الغربية من مكانة في مجتمعها وما استطاعت أن تناله من حقوقها في المجال الاقتصادي والاجتماعي, صحيح أن هناك كثيرا من الجوانب السلبية التي أفرزتها تجربة المرأة الغربية وهي في بعضها تمس حتى المكون الإنساني للمرأة، إلا أن هذه التجربة تشتمل على جوانب إيجابية كثيرة ارتقت بالمرأة وأعادت إليها كثيرا من حقوقها الإنسانية. فالمقارنة بحال المرأة الغربية وما وصلت إليه من مكانة وما نالته من حقوق له أثر كبير في طبيعة وطريقة النقاش الدائر حول المرأة. وهناك ظرف داخلي, من داخل المجتمع المسلم, يمارس ضغطا اجتماعيا وثقافيا على موضوع المرأة، يتمثل هذا الظرف في حركة الفئات والجماعات المسلمة غير المتدينة، وهي التي تتبنى فكرة أن أحد أهم الأسباب وراء تخلف المجتمعات الإسلامية هو الوضع المتدني للمرأة في الفكر الإسلامي وتعطيل دورها الاجتماعي بمبررات دينية. فهناك مطالبات داخلية تدعو لإنصاف المرأة تحت مظلة الحاجة إلى تفعيل دور المرأة ليتقدم المجتمع ويستطيع أن ينهض بنفسه, وهذه الفئات التي تدعو إلى مثل هذه المطالبات وإن كانت تواجه بانتقادات واتهامات أن نياتها الحقيقية هي الرغبة في إبعاد المرأة عن دينها ومن ثم توظيف هذا الموضوع من أجل زعزعة ثوابت الدين في فكر وثقافة المجتمع, إلا أن ما تثيره من مسائل وما تدعو إليه من حقوق بالمقارنة بما عليه المرأة المسلمة من واقع تشعر فيه بالدونية والظلم، يجعل لها قبولا اجتماعيا وبالأخص في الوسط النسائي. أما الجانب الثالث الذي يحيط بموضوع المرأة ويضغط عليه هو ذلك المجموع من الآراء الفكرية والقراءات الفقهية التي تعلن بوضوح ومن غير مواربة عن دونية المرأة من وجهة النظر الإسلامية. فهذه المجموعة التي تتبنى هذه الأفكار وتؤمن بها وتأخذ بما وصل إليها من قراءات فقهية بخصوص المرأة تدافع عن موقفها هذا في إطار رؤيتها المنغلقة للإسلام, فهؤلاء لا يرون لأنفسهم الحق في فهم الإسلام إلا في إطار فهم الماضين, فتقديسهم لكل ما وصل إليهم من تراث فكري وفقهي جعلهم يتشددون في رفضهم أي مقاربة لموضوع المرأة، بل وصل بهم الأمر إلى الدفاع باستماتة عن بعض العادات والتقاليد باسم الدين لأنهم وجدوا فيها ما يعزز من وقوف المجتمع إلى جنبهم في صد تلك المحاولات التي تريد مراجعة ونقد كثير من المقولات والاجتهادات التي تشير بشكل مباشر أو غير مباشر إلى دونية المرأة. هذه الرؤية التي فيها كثير من الخلط بين ما هو إسلامي وغير إسلامي لها قوة لا يستهان بها في الوقت الحاضر في ظل ما يرفع من شعارات إسلامية عاطفية وخطاب ديني متشنج ينسجم مع عمق الأزمة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية, فأجواء الدفاع عن الإسلام ضد ما يتعرض له من عدوان عسكري وهيمنة اقتصادية وغزو ثقافي ينتج حالة من التوجس والريبة حيال من يريد المراجعة والنقد حتى مع الأمور الشكلية أو تلك الأمور التي هي من الواضح أنها عادات أو ممارسات اجتماعية متوارثة أكثر مما هي أمور دينية. فموضوع المرأة هو إشكالية ليس من السهل مناقشتها لأنه موضوع عليه حمول كثيرة, منها ما هو خارجي وهو بالمقارنة بوضع المرأة في المجتمعات غير الإسلامية، ومنها ما هو داخلي وهو موقف بعض فئات المجتمع الإسلامي التي ترى ضرورة أن تواكب المرأة المسلمة غيرها من نساء العالم، وهناك أيضا تلك الرؤية التي تنظر إلى المرأة في إطار تراث ثقافي ديني يشوبه كثير من الأفكار التي تنتقص من مكانة المرأة. وفي النقاط التالية استعراض موجز لبعض أوجه الإشكالية مع موضوع المرأة:
1ـــ هناك عدة محاولات فكرية إسلامية للخروج بما يؤطر لرؤية إسلامية متكاملة بشأن المرأة, فالمرأة في الأصل هي مخلوق له كامل الصفات الإنسانية كما هي للرجل, فهناك رفض لدونية المرأة في الخلق والتكوين لأن أول الخلق كان هو مجرد إنسان ومن ثم خلق من هذا الإنسان الرجل والمرأة معا, "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها", فلا الرجل متقدم على المرأة ولا المرأة متقدمة على الرجل وأصلهما واحد وهو الإنسان, فهوية المرأة كما هي هوية الرجل الإنسانية. ومن ثم حدد لكل من الرجل والمرأة دور في الحياة، وطبقا لما يتطلبه هذا الدور المختلف لكل من المرأة والرجل حددت الحقوق والواجبات والتكاليف الشرعية, فالاختلاف بينهما أساسه الاختلاف في الأدوار وليس مرده لاختلاف المرتبة في الخلق. والإشكالية هنا هي ما أنتج من فكر وثقافة لتحجم ومحاصرة دور المرأة كما أراده الإسلام لها. ومن أجل إيجاد الأساس الشرعي لمثل هذا التحجيم لدور المرأة أعيدت قراءة النصوص الدينية التي تساوي بين المرأة والرجل لتؤول وتفسر بأنها تعطي الأفضلية للرجل.
2ـــ لا أحد يستطيع أن ينكر ما للثقافة من دور مؤثر في تحديد فهم ورؤية الإنسان لأمور الحياة، ومنها المسألة الدينية, ولما كانت الذكورية هي الثقافة الطاغية في المجتمعات الإسلامية كما هو الحال في المجتمعات الأخرى ولفترة زمنية طويلة فإنه من الطبيعي أن تتأثر قراءة النصوص الدينية بهذه الثقافة, فالإشكالية هنا هي كيف نتعامل مع هذا التراث الفكري والفقهي في إطار تبدل الثقافات. فالمطلوب هو كيف لنا أن نخرج النصوص الدينية من ظل ثقافة سابقة جعلت فهم النصوص الدينية لا بد أن يمر من خلالها. ففهم النصوص الدينية في ظل ثقافة تحط من مكانة المرأة وترفع من سلطة الرجل عليها هو بالتأكيد غير فهمها عندما لا يكون لمثل هذه الثقافة الذكورية هذا الحضور الطاغي.
3ـــ هناك جانب مهم للغاية وهو محدودية إسهام المرأة في إنتاج الفكر الديني, فالرجل المسلم هو تقريبا بالكامل من أنتج ونظر للفكر والمسائل الدينية, فانفراد الرجل بهذه المهمة هو الذي دفع ووجه النصوص الدينية لتصب لمصلحته, حدث ذلك منه بوعي أو غير وعي, فغياب المرأة من الحقل المعرفي يؤثر على طبيعة المعرفة المنتجة، وبالتالي فإن إفساح المجال للمرأة للتعاطي مع الشأن الديني قد ينتج لنا فكرا وآراء دينية مختلفة وتعدل من وضع المرأة في مجتمعاتنا. قد يقول قائل أن مسألة الفهم للدين ولغيره هي عملية عقلية وأن الرجل بطبيعته أبرع من المرأة في هذا المجال ولكن من قال أن هذا الادعاء حق, فالفهم لم يعد حكرا على العقل، فالذكاء العاطفي والحاجة إليه في المعرفة بات يزاحم الذكاء العقلي أن لم يتفوق عليه, فحقل المعرفة يحوي الإنسان بكل طبقاته وأبعاده.
أخيرا يبقى موضوع المرأة أصعب من أن نحويه في سطور قليلة ولكن وعلى الرغم من هذه الأهمية إلا أنه ما زالت معالجتنا له سطحية. نحن في حاجة إلى تأصيل موضوع المرأة إسلاميا لأن كثيرا من الشعوب الأخرى فهمت الإسلام بشكل خاطئ بسبب ما تراه وتسمعه عن موقف إسلامي مناهض للمرأة, فقضية المرأة المسلمة هي من أمهات المسائل التي يواجهها الإسلام في الوقت الحاضر.