المتدين .. العودة مرة أخرى لموضوع المرأة (8 من 10)

ما يخص موضوع المرأة فإن التأكيد واضح على أن الذكر والأنثى قد خلقا من نفس واحدة, فالإنسان وزوجه في المرتبة الإنسانية نفسها وأن كليهما معنيان بخطاب الخلافة في الأرض وكليهما استحقا سجود الملائكة. أما ماذا نعمل فيما عندنا من موروث ديني وثقافة دينية لا تنسجم مع تأكيد وتأصيل القرآن إنسانية المرأة, فهذا بمقدورنا التخلص منه, لكن بعد أن نجدد فهمنا ديننا وبعد أن نستعيد البعد الإنساني في تديننا.
كنت أعرف أن إشكاليتنا مع المرأة أكبر من أن يستوعبها مقال واحد, فموضوع المرأة بقدر ما هو حساس دينيا واجتماعيا بقدر ما هو موضوع تتشابك فيه أمور وجوانب كثيرة ومتعددة, لكن في اعتقادي أن الجانب الإنساني هو الأهم, وكان مقصودا التأكيد عليه في المقال السابق باعتباره المحور لموضوع المرأة, لأن في بعض موروثاتنا الدينية هناك فهم وإشارات مباشرة أو غير مباشرة بدونية المرأة في المرتبة الإنسانية. تأصيل إنسانية المرأة في ثقافتنا الدينية لابد أن يكون الأساس في بناء فهمنا وتعاملنا مع كل التفاصيل المكونة لموضوع المرأة, وهذا التأصيل يفرض علينا أن نرفض كل ما هو موجود بيننا من موروثات دينية قد تنص ولو بشكل غير مباشر على نقص أو دونية في الجانب الإنساني للمرأة. الآية الكريمة رقم (1) من سورة المائدة ''يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها'', تشير بوضوح إلى أن خلق الإنسان كان على شكل زوج وأن مصدر خلق هذا الزوج مصدر واحد وأنهما خلقا من نفس واحدة, فالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ يقول في خطابه لنا إنا خلقناك أيها الإنسان إن كنت ذكرا وزوجك الأنثى وإن كنت أنثى وزوجك الذكر من نفس واحدة, فالإنسان بالمطلق وزوجه هما في المرتبة الإنسانية نفسها, لا تقدم لواحد على الآخر في هذا الجانب الإنساني لأن ما يجمعهما في الأساس نفس واحدة. أما من أين آتتنا كل هذه المرويات التي مرة تقول لنا إن المرأة خلقت من أحد أضلاع آدم وهي مخلوق معوج باعوجاج ذلك الضلع الذي خلقت منه, ومرة يقولون لنا إنها خلقت من فاضل طينة آدم وجعل منها مخلوقا الغرض منه إمتاع الرجل وخدمته, وعلى هذا الأساس كان النساء هن أكثر جند الشيطان وأكثر أهل النار وبسببها خرج آدم من الجنة, وهي ذلك المخلوق الذي لا يستأمن منه ولا بد من تشديد الحذر منه وتغليظ التعامل معه, فهي مخلوق كله فتنة, فهذه كلها موجودة ولها دور في تشكيل ثقافتنا وشخصيتنا الدينية وعلينا أن نعتصم بهذه الآية الكريمة في رد كل هذه الثقافة الدينية المعادية لإنسانية المرأة.
أما الآن فلنأت إلى الآيات الكريمة من سورة البقرة التي تحكي قصة خلق الإنسان وسجود الملائكة ومن ثم الخروج من الجنة وما يمكن أن نستوحيه من هذه الآيات الكريمة بخصوص البعد الإنساني في موضوع المرأة, فأول آية في قصة خلق الإنسان كما ذكرها الله في كتابه الحكيم ــ الآية: (30) من سورة البقرة, ''وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة'', فالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أخبر الملائكة بأنه يريد أن يجعل له في الأرض خليفة, فهل نتجرأ على الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ ونقول إن كلمة خليفة المقصود بها هو الرجل وليس المرأة, أما أن الخليفة هو الإنسان وزوجه, الرجل والمرأة, اللذان خلقا من نفس واحدة, فخليفة الله في هذه الأرض هو الإنسان. ولعل الثقافة الذكورية هي التي أوحت بأن خلافة الله منصب ذكوري, أو أن البعض قد تصور بأن الله هو ملك أو سلطان كباقي الملوك وأن خليفته لا بد أن يكون ذكرا.
ثم تأتي بعد ذلك أربع آيات كريمات تتحدث عن آدم باعتباره المخلوق الإنساني الأول: الآية رقم (31) (33) (34) (35), من سورة البقرة, ''وعلم آدم الأسماء كلها'', ''قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم'',''وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم'', فآدم في هذه الآيات الكريمة هو ذلك الإنسان الذي خلقه الله وزوجه, وليس الزوج هنا المقصود بزوجته, من نفس واحدة. ففي الآية الكريمة الأولى يتحدث الله عن إعطاء آدم وهو الإنسان بالمطلق وهو الذي سيكون خليفة الله في الأرض من علمه, فهنا تشير هذه الآية الكريمة إلى الارتقاء بهذا الإنسان المخلوق والخليفة لله إلى مرتبة أعلى بالإفاضة عليه من علم الله ـــ سبحانه وتعالى. وفي الآية الكريمة الثانية أبان الله فضل هذا المخلوق الإنسان للملائكة من حيث إنه أنبئهم بالأسماء التي هم عجزوا عن معرفتها. هذا المخلوق الإنسان الذي حباه الله من علمه وخلقه في أحسن تقويم وجعله خليفته في الأرض وأبان عن عظمته عندما قال في خلقه تبارك الله أحسن الخالقين, استحق سجود الملائكة له بأمر الله. فما يفهم من هذه الآيات الكريمة أن آدم هو الإنسان بالمطلق وبالتفصيل هو الإنسان وزوجه. فالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ يقول في هذه الآيات الكريمة إن هذا الإنسان بالمطلق وهو آدم هو الذي سيكون الخليفة في الأرض, وإنه علمه من علمه وإنه أمر الملائكة بالسجود له. إننا نجد أن هذه الآيات الكريمة جاءت على شكل خطاب من الله ــــ سبحانه وتعالى ــــ إلى الإنسان كإنسان وآدم هو اسم هذا الإنسان بالمطلق. فليس الإنسان الذكر هو الذي اختص بالخلافة, وليس هو فقط من حباه الله من علمه, وليس الإنسان الأنثى كانت محرومة من كل هذا, وبذلك لم تستحق السجود من الملائكة, فكلاهما آدم وزوجه كانا محل هذه العناية الإلهية.
ومن ثم تأتي الآية الكريمة (35) من سورة البقرة التي تشير إلى سكن آدم في الجنة, ''وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين'', ففي هذه الآية الكريمة ذكر آدم وزوجه وقيل لهما أن يسكنا الجنة، وقد قيل في هذا الأمر قصص ومرويات كثيرة شرقت وغربت ونهلت من الأساطير القديمة الشيء الكثير, وكل ما في الأمر أن هذا الإنسان وزوجه اللذين خلقا في أحسن تقويم وسجدت له الملائكة وحباهما الله من علمه يستحقان فعلا العيش في الجنة, فهل يعقل أن يسكن الله العادل والحكيم هذا المخلوق الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم وجعله الخليفة في الأرض وهو بعد لم يفعل ما يمس ما عليه من عظمة غير الجنة؟ أما لماذا ذكر الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ آدم وزوجه في هذه الآية ولم يذكر إلا آدم في الآيات السابقة, ففي الآيات السابقة كان الأمر التعليم وإظهار عظمة هذا المخلوق ومن ثم السجود, يتعلق بالإنسان كإنسان, أما في هذه الآية فآدم وزوجه كلاهما سيكونان في محل اختبار, ومرة أخرى أن كلمة زوجه هي إشارة إلى زوجية الإنسان كمخلوق وأن كلا هذين الزوجين سيكونان في محل اختبار. وكان الاختبار هو الاقتراب من الشجرة, فليس في هذا الموضوع حديث عن ذنب أو معصية ارتكبها آدم وزوجه بقدر ما هو إشارة إلى بداية عمل لماكينة الإرادة في الإنسان, فالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أراد للإنسان أن يكون مخلوقا صاحب إرادة وعندما مارس هذا المخلوق إرادته حان الوقت وأصبح مؤهلا لممارسة الخلافة على الأرض, وبالتالي لا بد له من الخروج من الجنة إلى حيث ستكون المسؤولية والخلافة, وأما كلمة فتكونا من الظالمين في الآية الكريمة فهي لا توحي بأن آدم وزوجه سيكونان من الظالمين لاقترابهما من الشجرة بقدر ما توحي بأن هذا الاقتراب, الذي هو تعبير عن ممارسة الإرادة, سيدخلهما في عالم الاختيار الحر, الذي قد يؤدي بهما إلى ارتكاب الأخطاء أو المعاصي والمفاسد, وبالتالي سيكون هذا الإنسان من الظالمين وارتكاب الإنسان الخطأ بالمطلق ظلم.
ثم تأتي الآية الكريمة رقم (36) من سورة البقرة, ''فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه'', لتشير إلى أن إرادة الإنسان هي المدخل لدخول الشيطان, فآدم وزوجه كلاهما اقتربا من الشجرة بإرادتهما, وهما بالتالي هبطا إلى الأرض ليمارسا خلافتهما على أن يعودا إلى الجنة, لكن بعملهما الصالح الذي تحقق بإرادتهما وبعد أن أديا ما تقتضيه خلافة الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في هذه الأرض من إعمارها وإقامة العدل فيها.
بقيت هناك معان كثيرة تنطق بها هذه الآيات الكريمة ومثله تلك الآيات الموجودة في سورة الأعراف, بخصوص خلق الإنسان, لكن ما يخص موضوع المرأة فإن التأكيد واضح على أن الذكر والأنثى قد خلقا من نفس واحدة, فالإنسان وزوجه في المرتبة الإنسانية نفسها وأن كليهما معنيان بخطاب الخلافة في الأرض وكليهما استحق سجود الملائكة. أما ماذا نعمل فيما عندنا من موروث ديني وثقافة دينية لا تنسجم مع تأكيد وتأصيل القرآن إنسانية المرأة, فهذا بمقدورنا التخلص منه, لكن بعد أن نجدد فهمنا ديننا وبعد أن نستعيد البعد الإنساني في تديننا, فرؤيتنا للمرأة انعكاس لثقافتنا الدينية وليس لما جاء به الدين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي