سلوكيات عدوانية في عالم العمارة والعمران

التقيت خلال عطلة عيد الفطر المبارك، أعاده الله على الجميع بالخير واليُمن والبركات، أحد أصدقاء المرحلة الابتدائية، الذين انقطعت صلتي بهم منذ ذلك العهد البعيد. وتبادلنا معا حديث الذكريات، وما آل إليه حالنا وحال تلك الشلة القديمة. صديقي هذا معلم في المرحلة المتوسطة في إحدى مدارس المدينة المنورة، وحصل أخيرا على درجة الماجستير برسالة عنوانها ''السلوك العدواني لدى طلاب المرحلة المتوسطة''، وهو العنوان الذي قادنا إلى نقاش مطول حول هذا الموضوع، وقادني إلى كتابة هذه السطور.
قلت لصديقي ما خلاصته أن السلوك العدواني لدى طلاب المرحلة المتوسطة ليس حالة خاصة بهم دون سواهم، وإنما هو جزء من مجمل السلوك العدواني لدى المجتمع، وليس منفصلا عنه بأي حال من الأحوال، وإنما يتخذ شكلا يتلاءم مع مفاهيم هذه الفئة من المجتمع، ويعكس طبائعهم وقدراتهم الذهنية والبدنية. وجرَّنا هذا الطرح للحديث عن فكرة السلوك العدواني لدى فئات المجتمع كافة، واستعراض بعض نماذجه، بدءا من الموظف المتسلط الذي يعتقد أن وظيفته تمنحه السلطة للتحكم في مصائر الناس ومصالحهم، إلى السائق الذي يعتقد أنه يملك الطريق، ويملك الحق في الالتفاف من أقصى اليمين لتخطي طابور السيارات المنتظرة عند إشارة المرور، ومرورا بالمتسوق الذي يتخطى طابور المشترين لأنه يريد شراء عبوة ماء فقط، والشخص الذي يوظف علاقته بموظف الحجز في الخطوط لتأكيد حجزه على حساب مسافر آخر، والجار الذي يغفل أذى أبنائه لجاره بزعم أنهم أطفال أبرياء. وطبعا، لم نتمكن في نقاشنا المحدود من الوصول إلى حصر لكل نماذج هذه السلوكيات العدوانية لدى أفراد المجتمع، بما جعلنا نستنتج أن هذه السلوكيات أصبحت متأصلة لدى عدد كبير من أفراد وفئات المجتمع، إلى حد أصبح فيه الحصول على بعض الحقوق الأساسية مطلبا يحتاج إلى توظيف الواسطة، وبات الناس يعيشون جوا من فقدان الثقة بعضهم ببعض، ويسعون إلى الحصول على شكل من أشكال الحماية، التي يمكن أن تكون هي ذاتها شكلا من أشكال العدوان.
انفض ذلك اللقاء، واستمر فكري يعمل في موضوع هذا النقاش وهذه المشكلة. وبحكم التخصص، جرفني التفكير إلى قضايا العمران والتنمية العمرانية، وصرت أسترجع تلك الظواهر التي تعبر عما يمكن اعتباره سلوكا عدوانيا في هذا المجال، ووجدت فكري يغوص في الكثير الكثير من القصص والنماذج والحالات التي تمثل سلوكيات عدوانية في عالم العمارة والعمران. والمشكلة أن مثل هذه السلوكيات لا تنحصر فقط في ممارسات فردية، بل في ممارسات مؤسسية كذلك، فعلى سبيل المثال، فإن نظام البناء الذي يغفل الاستخدام الأمثل للعقار سلوك عدواني، والأكثر عدوانية منه إغفال المشكلة وعدم السعي في حلها، والتعقيدات التي تواجه إصدار رخص البناء هي سلوكيات عدوانية، والنماذج المعمارية السيئة التي تشوه وجه المدن هي نماذج تعتدي على الذوق العام وقيمة المدينة، وأسعار العقارات التي تقصم ظهر المستهلك بعد مرورها بعدد من دورات الربحية الجشعة لدى المطورين العقاريين نموذج من أشكال العدوانية، والتساهل في تطوير مواصفات البناء والارتقاء بجودته سلوك عدواني، وترسية المشروعات على الاستشاريين والمقاولين وفق مبدأ أقل الأسعار دون النظر إلى عامل الجودة والكفاءة سلوك عدواني، والشخص الذي يفتح نوافذه دون اعتبار لحرمات جاره يسلك سلوكا عدوانيا، وصاحب المنزل الذي يضع لوحة بعرض السور يمنع الوقوف أمام منزله في حرم الشارع العام يسلك سلوكا عدوانيا، والممارسات الاستنزافية التي تعانيها المهن الهندسية ممارسات عدوانية. وغير ذلك الكثير، ولو أردت أن أسرد كل ما تطرق إليه فكري من نماذج لنقلت للقارئ الكريم ما أصابني من يأس وإحباط.
أحد نماذج العدوانية التي خطرت في ذهني هو نموذج ذلك الموظف في الإدارة القانونية في وزارة المالية، وكنت وإياه حاضرين في ورشة عمل لمناقشة تطوير بعض نماذج عقود المشتريات الحكومية لمشروعات التنمية العمرانية. ففي الوقت الذي كان كل المشاركين في تلك الورشة يعلنون حاجة أكيدة إلى مراجعة تلك النماذج، وتحسين آليات التنافس على المشاريع الحكومية، والتركيز على الكفاءة والقدرة الفنية عوضا عن السعر، وتقليل متطلبات الضمانات والاحترازات التي تحمل المقاولين أعباء كثيرة، وتنعكس سلبا على شفافية المنافسات، إلا أن ذلك الشخص انبرى بعدوانية عجيبة مدافعا عن الوضع الراهن، مبررا ذلك بضرورة الحفاظ على المال العام! وقتها، أحس كل الحضور بأنهم لصوص يتحينون الفرص لسرقة المال العام، في غفلة من هذا المحامي حامي الحمى. وأيقنت وقتها، أن هذا النموذج الذي يعبر عن مناخ من فقدان الثقة بين منسوبي أجهزة الدولة وشركات القطاع الخاص لا يمكن أن ينتج تنمية متوازنة وفاعلة، ولا يمكن أن يقود إلى تحقيق تطلعات القيادة في النهوض بهذه البلاد، طالما كان كل طرف يرى نفسه دون سواه أهلا للثقة وتحمل المسؤولية وحماية مقدرات التنمية من أيدي العابثين.
لست ممن يمارسون النقد المحبط دون محاولة لطرح الحلول، لكن هذه المشكلة أكبر بكثير من قدراتي المتواضعة. وفي اعتقادي، فإن المشكلة في الأساس ذات أصول تربوية، بالنظر إلى أن السلوكيات العدوانية في عالم العمران هي مجرد نماذج وتطبيقات تعكس الفكر العدواني وانعدام الثقة بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة. فالأنظمة عامة مبنية على افتراض سوء النية في الجميع، والجار يسيء الظن بجاره، حتى إنه يرفض أن يشاركه المصعد إذا كانت عائلته معه، والموظف يسيء الظن بالمراجعين، والعكس كذلك، والمسؤول يفترض التلاعب وسوء النية من صاحب المعاملة. وبالعموم، فإن المجتمع يعيش حالة من انعدام الثقة، وهذه الحالة هي التي أنتجت هذه الظاهرة من السلوكيات العدوانية والأنانية. وفي نظري، فإن الموضوع يحتاج إلى الكثير من الدراسات الاجتماعية والتربوية لتقييم هذه الظاهرة وبذر الحلول التي تهدف إلى تنمية الشعور بالثقة بين أفراد المجتمع، والإيمان بحقوق الآخرين وحقوق المجتمع الشمولية. والشيء الأكيد، أن جيلنا سيستمر في العيش في هذه الظاهرة فترة ليست بالقصيرة، لكنني أتمنى وأحلم أن تكون ظروف جيل أطفالنا أفضل من هذه الظروف، وأن نبادر من الآن لبحث المشكلة وبدء العلاج الذي سيكون بكل تأكيد علاجا طويل المدى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي