المتدين وإشكالية العلم والتعلم (9 من 10)
العلم هو روح العصر وهو الطريق إلى المستقبل, والعلم سيكون هو ساحة التحدي والمنافسة وحتى الصراع بين أمم العالم, فهذا بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت يقول إن الجامعات ستكون هي ساحات الحروب والصراعات بين الدول في المستقبل, وونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا السابق يقول بعد الانتصار على ألمانيا: إن إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل. ليس المقصود بالعلم هو مجرد اكتساب المعلومات أو حيازتها ذهنيا وليس هو أيضا اقتناء التكنولوجيا والتوسع في استخدامها في حياتنا, فهذا وإن كان مطلوبا إلا أنه لا يصنع منا أمة علمية قادرة على النهوض بنفسها ومواجهة التحديات. فالعلم هو منهج في فهم الواقع ودراسته بهدف تغييره إلى الأحسن, والعلم هو نمط خاص من العلاقة الواعية بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والمجتمع وحتى بين الإنسان ونفسه, والعلم هو تشغيل للعقل الإبداعي والنقدي عند الإنسان لأن المطلوب من الإنسان العالم الإتيان بأفكار جديدة وطرح أسئلة مغايرة والإجابة عنها بأشياء غير متوقعة, والعلم هو ظاهرة ثقافية تستثير رغبة الإنسان إلى المعرفة وتدفع به إلى المغامرة من أجل الحصول عليها وامتلاكها, هو ظاهرة تفسر الوجود الإنساني على أنه مشروع يقوم على أربعة أركان: الإرادة والإيمان والفكر والعمل, هو مشروع لا يريد للإنسان حياة عشوائية ولا يريد له وهو خليفة الله على هذه الأرض حياة يغيب عنها الإبداع والتجديد, لا يريد له السكون ولا يقبل أن يكون زمانه مجرد وعاء فارغ من الفعل والإنجاز, فالعلم باختصار هو مشروع يحقق به الإنسان وجوده وذاته وهو أحسن وسيلة يمتلكها للتعبير عن نفسه كأعظم مخلوقات الله سبحانه وتعالى وهو أداته الفعالة للدفاع عن وجوده في صراع الحياة.
ولما كان العلم على هذه المنزلة الرفيعة في التأثير في وجود الإنسان, نفهم خطورة افتعال التصادم بين الدين والعلم ونفهم مقدار الضرر الذي سيلحق بمجتمعاتنا عندما يستدرج المتدين للخصومة مع العلم, فحضارة اليوم والغد ستكون حضارة قوامها العلم والمعرفة، ولكي نستجيب لمستلزمات هذه الحضارة فلابد لنا كمجتمع أن نولي أهمية خاصة للعلم والثقافة العلمية. هذا الاهتمام بالعلم وثقافته يفرض علينا أن نناقش ونتعامل بوعي مع ثقافتنا الدينية في علاقتها مع العلم، وأن نطرح بكل وضوح وشفافية كل الأشياء والمعوقات التي تسببت فيها ثقافتنا الدينية في عدم تطورنا علميا ومعرفيا. لسنا بحاجة إلى الفلسفة لكي نثبت لأنفسنا أننا لا نملك من العلم ما يكفي للدخول والمشاركة في حضارة اليوم فكيف بحضارة المستقبل, فالمتدين اليوم إن لم يقرن تدينه بثقافة علمية سيرتد عليه ربما تدينه بالجهل والتخلف واللافعالية وسيجعل منه إنسانا يعيش على الهامش وليس له مكان في صناعة التاريخ. ثقافتنا الدينية تعاني فعلا من أمراض كان لها دور في تكريس الجهل عندنا, ونستطيع أن نجمل هذه الأمراض وأعراضها فيما يلي:
1-علينا أن ننتبه إلى حقيقة مهمة جدا وهي أن العالم الذي يعيشه الإنسان بنور العلم هو غير العالم الذي يعيشه بظلام الجهل, فذاك عالم يتجلى فيه الرحمن وهذا عالم يسكنه الشيطان, فعالم الجاهل عالم مظلم تعشش فيه الخرافات والأوهام والأباطيل والأساطير، وأما العالم الذي يستنير بنور العلم فهو عالم مشرق بالحقائق الإلهية, تتجسد فيه عظمة الخالق وتنكشف له بعض أسرار هذا الوجود فيزداد إيماننا ويزداد خشوعا, إنما يخشى الله من عباده العلماء, عالما يتسع فيه عقل الإنسان ليستقبل المزيد من الفيض الإلهي والرحمة الربانية وبفضل هذا الفيض تزداد قدرة الإنسان وتزداد ولايته على هذا الكون. من حق الإنسان المتدين أن يسأل نفسه, لماذا امتنعت الطبيعة أن تكشف له الكثير من أسرارها, ولماذا صار غيره أكثر منه ولاية على هذا الكون, ولماذا صار بهذا الضعف حتى أنه بات يستجدي من هم أدنى منه مرتبة في الخلق؟ صار يتودد للشياطين ليمنعوا عنه الضرر وصار يتقرب للجن ليجلبوا إليه بعض الحظ, صار يتوسل بالأوهام لتجنبه من هجوم الفيروسات والبكتريا, وصار يلاحق الأساطير لعله يجد فيها تفسيرا لواقعه وتسلية له عن ظروفه, فالتدين وحده لا يكفي أن يخرج بالإنسان من عالم الشيطان إلى عالم الرحمن ومن عالم الظلمات إلى عالم النور ومن عالم الوهم إلى عالم الحقيقة لأن التدين الحق هو التدين الذي يحيط نفسه بنور العلم.
2-إن الفهم الخاطئ للغيب ربما هو السبب وراء عدم الارتياح للعلم, فالتعلق بالغيب يجعل الإنسان المتدين يتوهم أن كل شيء خفي عنه فهو من الغيب, إن هذا الإنسان لا يعرف أن الله أراد منه أن يختبر هذا الغيب بعقله وفكره وعلمه ليكتشف بنفسه حدود ما أراد الله له أن يعرفه, أن هذا الفهم الخاطئ أنتج للإنسان عقلا لا يستريح إلى طرح الأسئلة ولا يستثيره الغامض فيبحث عما يكشف له هذا الغموض ويهاب المغامرة لأنه لا يريد أن يثقل نفسه بمواجهة خيارات متعددة. إنه فهم يوهم الإنسان بأن كشف الحجب عما قد يعتقد أنه غيب هو شكل من أشكال التمرد والتحدي للخالق, فكيف مع هذا الفهم ننتظر من الإنسان المتدين أن يكون عالما ومبدعا ومفكرا.
3-لا يمكن أن يكون هناك علم وهناك رؤية خاطئة للزمن, فعندما ينظر للزمن على أنه وعاء قد امتلأ بعلم الأولين وفكر السابقين ولا مكان فيه للاحقين، فعندها يكون العلم فقط مجرد التأمل والنظر في رصيد هؤلاء الأولين. فالعلم في حاجة إلى ثقافة تنظر إلى الزمن على أنه قابل أن يتسع بتجدد عطاء الإنسان ولا حدود لهذا العطاء ما دام في الإنسان جنبة إلهية يمر عبرها نور متصل بالله ـ سبحانه وتعالى. فالزمن ليس هو الزمن الذي نعيشه بقدر ما هو الزمن الذي نصنعه, فهناك زمن يتسع في اللحظة الواحدة لكثرة ما يصب فيه من أفكار جديدة وهناك زمن هو هو لم يتغير مذ قرون عديدة قد رضي أصحابه بما فيه من علوم الأولين, ينهلوا منها لا ليفهموها ويزيدوا عليها بل ليتبركوا بها ويعيدوها على ما هي عليه, فالعلوم لكثرة ما مر عليها من زمن بلا تجديد صارت هي وأزمانها مقدسة وصار السابق يوصي اللاحق بعدم المساس بها لأنها باتت للتبرك بها لا غير. فإذا لم يتغير هكذا فهم للزمن فلا مكان للتفكير ولا مكان للإبداع ولا مكان للتجديد.
4- إن العلم في جزء كبير منه هو منهجية للتفكير والإبداع والنقد وإنتاج الأفكار والمنهجية العلمية يكتسبها الإنسان بالتعلم, وأما إذا تعلم الإنسان واجتهد في اكتساب العلوم والمعارف ولكنه لم يتحصل على المنهج لهذه العلوم فإن هذا الإنسان ربما يصبح خطيبا مفوها أو متحدثا بارعا أو قارئا وحافظا جيدا لما يقرأه إلا أنه لا يكون عالما ومفكرا أو مبدعا. فهناك طرق تعليم توهم الإنسان بأنه يتعلم وهو لا يتعلم, فحفظ أقوال الآخرين وترديدها ومن ثم تلقينها لأناس آخرين هو تعليم، ولكنه تعليم لا ينتج علما ولا يخرج فكرا ولا ينتظر منه إبداعا. وعندما لا يكون طرح الأسئلة جزء من تعلم الإنسان فلا ينتظر من هذا الإنسان أن يزيد على ما تعلمه علما آخر, وعندما يسمح للبحث والدرس والاجتهاد بشرط ألا يخرج بنتائج جديدة وألا يزعزع مسلمات قديمة ولا يهز الثقة بأفكار راسخة ولا يشكك بقناعات متوارثة ولا يخطئ أشخاصا هم غير معصومين ولكن لهم قداسة في شخوصهم وأقوالهم, فكيف لهذا البحث والاجتهاد أن ينتج علما, إنها بحوث لا لننتج بها علما بل لنكرس بها جهلنا وتخلفنا.
أخيرا نعود إلى السؤال نفسه وهو: كيف يتعين علينا تعديل ثقافتنا الدينية لنخلصها من هذه العلل والأمراض ويكون بمقدورنا أن ننتج متدينا يستطيع إما أن يكون في الحد الأدنى متدينا ومتسلحا بالثقافة العلمية، وإما أن يكون في الحد الأعلى عالما يحاكي العلماء في إنتاجهم الفكري وإبداعهم العقلي. فتجاوز هذه الإشكالية بقدر ما هو مهم بقدر ما هو ممكن بشرط أن نستعيد إرادتنا ونستعيد زماننا.