العراق النموذج كما يراه الأمريكيون

إذا كان دخول العراق وقهره عسكريا يمثل تحديا للعسكرية الأمريكية، وإذا كان الغزو المسلح عملية ساخنة ومكلفة فإن التحدي الذي تواجهه الولايات المتحدة أكبر مع نهاية مهمتها وبداية عصر جديد.
زعم الأمريكيون أنهم دخلوا العراق للقضاء على الدكتاتورية، وهو ادعاء هزيل، لأن العالم مليء بالأنظمة المشابهة لنظام صدام حسين، أو لإقرار السلام في المنطقة من خلال احتواء إيران وتحجيم تركيا، وهو ادعاء ثبت قصوره؛ لأن إيران ما بعد صدام أقوى من إيران التي حاربت صدام، ولأن تركيا بدأت عهد مناوءة القوى الغربية وإسرائيل لأول مرة.
ونذكر أن الولايات المتحدة عندما تم لها غزو العراق قامت بتسريح الجيش العراقي، وهو قرار اتسم بالغباء وقصر النظر، لأن التحدي الأعظم الذي يواجه العراق الآن هو إنشاء جيش قادر على حماية ثرى الوطن، جيش مدرب متكامل التسليح يستطيع أن يتعامل مع حالة عدم الاستقرار الداخلي.
ونظرا للتكوين البشري للعراق الذي يضم عرقيات مختلفة، وربما متنافرة مثل الشيعة والأكراد والسنة وغيرهم، فإن تكوين جيش قوي يُعد من أشق الأمور. ولا ينكر أحد قدرة صدام حسين على جمع الأشتات العرقية بعد رحلة طويلة من المحاولة والخطأ والترغيب والترهيب. أما الآن فإن الانتماء العرقي أصبح أكثر تغلغلا.
وفي 31 آب (أغسطس) الماضي أعلن أوباما نهاية العمليات العسكرية في العراق التي استمرت منذ آذار (مارس) 2003، وذلك حسب الاتفاقية الحالية التي تم توقيعها في عهد الرئيس بوش، التي نصت على مغادرة آخر جندي في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2011، ولكن التساؤل الأهم: ماذا سيكون عليه الوضع الأمني بعد الانسحاب؟ خاصة وأن بابكر زيباري قائد الجيش العراقي كان قد أعلن أن جيشه لا يستطيع مواجهة التهديدات الأمنية قبل عام 2020. ويرد الأمريكيون أن القواعد الست التي ستبقى فيها القوات الأمريكية يُمكن أن تتولى هذه المسألة، فضلا عن بقاء قوات أخرى لصيانة وتشغيل أنظمة التسليح الأمريكية التي ستترك للعراقيين إلى جانب ما سيشتريه العراقيون مستقبلا.
وقد ثبت بالممارسة ومن خلال الواقع العملي أن بقاء القوات الأمريكية لا يضمن أي تحسن في الموقف العراقي على الصعيد المحلي، ولكن التدريب والتجهيز والاستشارات العسكرية في غاية الأهمية لبناء الدولة التي حطمها الأمريكيون. ويرى الأمريكيون أن العراقيين مطالبون بالدفاع عن بلادهم ضد أي محاولات للتدخل من جانب جيرانهم (يقصدون إيران)، إلى جانب مواجهة المقاومة الرافضة للحكم التي زرعها الأمريكيون، التي تصفها واشنطن بأنها ''عناصر الإرهاب''، ومن المنتظر أن يتعاظم دور هؤلاء بعد انسحاب الأمريكيين.
ويبقى السؤال الأكبر: ما شكل الوجود الأمريكي في العراق بعد الانسحاب؟ والإجابة: أنه سيكون على شاكلة العلاقة الأمريكية مع دول الخليج الصغرى (قطر – الكويت – البحرين – الإمارات.. إلخ)، وهو ما يعني تأجير قواعد وتزويد العراق بأسلحة متطورة مع التدريب المستمر. ويثور تساؤل تطرحه دوائر الحكومة العراقية عن أهمية بقاء أمريكا، لأن بقاءها يخفف حدة الصراعات العرقية والتوترات الداخلية. فالأكراد على سبيل المثال بدؤوا يعدون العدة لإعلان رفض الآخرين، مما يشي باحتمال انفصال الأكراد في دولة مستقلة، وإذا تم ذلك فإن تركيا ستدخل بهراوة غليظة حماية لأقليتها الكردية ـــ وهي الأكبر في المنطقة قياسا بالدول الأخرى التي تضم الأكراد (إيران ـــ أذربيجان ـــ سورية ـــ العراق).
وهناك أصوات تتعالى في الولايات المتحدة وجميع مروجي الأفكار الأمريكية في المنطقة بأن النموذج العراقي الموعود لن يكتمل في غياب القوات الأمريكية. ورغم أن أوباما أعلن في وعوده الانتخابية أنه سيخرج من العراق، إلا أن إغراء النفط ومشروعات إعادة التعمير إلى جانب المشروعات التنموية العملاقة تُسيل لُعاب عناصر اللوبي الاقتصادي، الذين أيدوا الغزو على أمل حصولهم على جزء من كعكة المشروعات، الذي لا يتم إلا إذا أصبح العراق حليفا دائما للولايات المتحدة.
ولا يعزل المحللون بين ترويج أمريكا وتهويلها للخطر الإيراني وبين النزعة للاستمرار كحليف استراتيجي للعراق، فهي تتحدث كثيرا عن أهمية ردع إيران وتبالغ في الحديث عن خطرها على الدول العربية، وأن العراق لن يستطيع الدفاع عن نفسه من العدوان الخارجي، مما يتيح لإيران التدخل في الشؤون الداخلية العراقية. ولذلك فإن السيناريو المطروح هو أن تتقدم الحكومة العراقية بطلب إلى واشنطن لتبقي قواتها حتى عام 2012 حتى يخرج أوباما عن وعوده السابقة.
ويبقى العبء الأكبر هو كيفية بناء جيش قوي ومجتمع متماسك. وهما أمران متداخلان لا يمكن تحقيق أحدهما بمعزل عن الآخر، فالجيش العراقي هو صورة مصغرة للمجتمع العراقي، وعليهما ـــ المجتمع والجيش ـــ أن يضعا حدا للفساد ورفع مستوى المجتمع والجيش، والتأكد من ولاء الجنود للدولة وليس للمرجعية الدينية أو المجموعة العرقية التي ينتمون إليها. وعلينا أن نتذكر أن مهمة الجيش العراقي الحالية هي مهمة شرطية داخلية ورغم أن عدد قواته يُقدر الآن بـ670 ألفا، إلا أنه أشبه بقوات أمن داخلي كما أنه ليس بوسع سلاح الطيران العراقي أن يحمي سماء العراق أو تأمين الغطاء اللازم لمحاربة القوى المحلية الرافضة أو عناصر القاعدة.
والجدير بالاهتمام أن القائد السابق للقوات الأمريكية في العراق الجنرال أوديرنو ترك الباب مفتوحا أمام دخول القوات الأمريكية في أي وقت، بل أضاف بأن القوات العراقية إذا ما فشلت في مهامها الدفاعية فستأتي الولايات المتحدة مرة أخرى، ولذلك فإن المرونة مطلوبة على حد تعبير أوديرنو، وستلعب القواعد الست دورها في رصد الموقف الأمني وطلب النجدة إذا ما لزم الأمر. ولم يخف الجنرال أن هناك جيشا أمريكيا آخر سيبقى في العراق وهو جيش مدني قوامه رجال الشركات في جميع المجالات الأمنية والمعمارية والثقافية والاجتماعية والصناعية والزراعية والدبلوماسية (من المنتظر أن يزيد أعداد العاملين في السفارة الأمريكية في العراق على ألفي دبلوماسي ـــ رقم قياسي).
ويعلق الأمريكيون ومن يتبنون وجهة نظرهم على هذا الجيش من المدنيين آمالا كبارا في تحقيق التنمية الشاملة على أحدث نمط، حيث يصبح العراق قلعة غربية مبهرة، تثير غيرة ودهشة جيرانها فتهرع لطلب المثل. ومن هنا كثر الحديث عن النموذج العراقي والتقدم المذهل الذي سيحققه. وبالطبع لا يتجاوز ذلك كله مجال الدعاية والترويج للفكرة الأساسية التي ألقى بها الأمريكيون للصحافة من أنهم جاؤوا للتعمير وليس للتدمير. ولا ينسى هؤلاء أن يُذكِّروا العالم بالديمقراطية المثالية التي سترفرف في سماء العراق، والرخاء الذي لم يره أحد في المنطقة العربية أو غيرها. من هنا، فإن الحديث بدأ عن اتفاقية جديدة بنودها تعالج التعاون المدني في ظل الاتفاقيات الأخرى حول الأمن.
وتبقى أكبر عقبة تواجه العراق ـــ بل منذ إنشائه عام 1920 ـــ هي البحث عن صيغة سياسية تجمع شتات الشعب العراقي. ولكن للأمريكيين رأيا آخر يتمثل في إقرار شراكة استراتيجية تجمع بين الالتزام والفكر المشترك بما يحقق مصلحة الطرفين. ولا شك في أن مصالح الطرف الأمريكي هائلة ورهيبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي