المؤسس يتدارس الوضع العام في مؤتمر داخل منزل السبيعي في شقراء
السبيعي في كتب التاريخ
احتل السبيعي مكانة عند عدد من المؤرخين والرحالة الذين زاروا شقراء والتقوه، وحطّوا رحالهم في منزله الكبير والعامر.
يذكر المؤرخ أمين الريحاني أنه حينما خرج من الرياض أعطاه الملك عبد العزيز خطابا إلى أحد عُماله في شقراء، هو الشيخ عبد الرحمن السبيعي، يأمره بأن يكتب إلى الشيخ المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى في أُشيقر ليرسل ابن عيسى تاريخه الخطي كي يطلع عليه الريحاني ثم يعاد إلى صاحبه.
يقول الريحاني: جئتُ شقراء وراح نجّاب (صبي) السبيعي إلى أُشيقر، فوجد بيت المؤرخ مقفلاً، وقيل له إن الشيخ إبراهيم في عنيزة، وكنا في طريقنا إلى عنيزة، فرجونا أن نجتمع بالمؤرخ فيها، لكن السبيعي ــ سلمه الله ــ لا يثق كل الثقة بالتقادير، فأمر نجّابه بالرجوع إلى أُشيقر يوم رحلنا من شقراء وقال لي: إذا ظفر بالتاريخ أرسله إليك حيث تكون في بريدة أو في عنيزة أو في الحفر، وإذا اجتمعت بصاحبه في طريقك فأمسكه يا أمين بتلابيبه!
يضيف الريحاني: وصلنا إلى عنيزة فلم نجد فيها المؤرخ، ولا جاءنا من السبيعي التاريخ، لكن غداة دنونا من بريدة خرج النجّاب يلاقينا، وكان قد جاءها رأساً من أُشيقر، فسلّم وأخرج التاريخ من جيبه قائلاً: بعد أن تنسخ حاجتك منه رده إلى السبيعي ليرده إلى صاحبه، وهكذا كان.
وفي موضع آخر، يتحدث الريحاني عن مدينة شقراء، وعن لقائه السبيعي في منزله، والحديث الذي دار بينهما، وشكوى السبيعي من البادية.
يقول الريحاني: «كنا في شقراء ضيوفَ وكيل المال عبد الرحمن السبيعي، وهو رجل صغير نحيل عليل، يحمل في جيبه مفتاحاً من الخشب يفتح 20 باباً في داره، ويتولى الجباية في الوشم كله، إن بيت السبيعي مفتوح وناره مشبوبة على الدوام.
السبيعي «لحية غانمة» كما يقولون هناك. أي أنه ذو يُسر وفضل وحمية. ومع ذلك فهو لا يوكِّل أحداً بعمل يستطيع أن يعمله بنفسه. نباشر أمرنا بيدنا. الكاتب متيّسر لكن ما كل واحد نأمنه على الأسرار.
فنصبر على المشقة ولا نشكو غير ضعف في البدن - الكلام هنا للسبيعي - لو كان لنا ما للبدو من الصحة والعافية ثم طفق يشكو البدو.
هم على صحتهم كسالى، خاملون، ويجب علينا مع ذلك أن نلاطفهم عندما يُنيخون علينا، ونجاملهم ونحبهم ونقبّلهم بين عيونهم ونحمل لهم الأكل بيدنا.
وإلا راحوا يسبوننا ويقولون إننا كفار .. البدوي إذا شاف الخير تدلى وإذا شاف الشر تعلّى.
ثم أنشد يقول:
من لا يجينا والديار مخيفة
لا مرحبا به والبلاد عوافي
يقول الريحاني: شكرتُ الحمّى بعدئذ، وأشكرها الآن على يومين في بيت عبد الرحمن السبيعي تداويت فيهما بطيبتين: لبَنه وحديثه».
ويذكر المؤرخ عبد الله فلبي أن السبيعي لم يطلب طوال عمله مع الملك عبد العزيز أيّ هبة أو عطية، ويضيف قائلاً: «السبيعي رجل فاضل، وأحد تجار نجد الأثرياء، وإن اسمه يجب أن يبقى في الذاكرة».
وقضية أن السبيعي لم يطلب أي هبة أو أُعطية من الملك عبد العزيز رغم أنه أحد أبرز رجالات الإدارة والمال في عهد المليك المؤسس، فهذا ما يؤكده المؤرخ محمد المانع في كتابه «توحيد المملكة العربية السعودية», الذي ترجمه الدكتور عبد الله العثيمين، حيثُ يذكر المانع أن الملك عبد العزيز قال ذات يوم إن هناك رجليْن لم يطلبا منه أيّ شيء على الإطلاق، هما عبد الرحمن السبيعي، وكيله في شقراء، وعبد الله فلبي.
كما أن فلبي في موضع آخر وصف زيارته لمدينة شقراء في عام 1918 (1336 - 1337هـ)، ووصف قصر السبيعي، وقد حضر فيه مؤتمراً عقده الملك عبد العزيز بمشاركة كبار الشخصيات لتدارس الوضع العام مع الشريف علي بن الحسين ومع ابن رشيد ومع البادية.
أما الرحالة محمد أسد، فقد زار السبيعي في منزله وبقي عنده لأيام، وكشف عمّا يتحلى به الرجل من كرم ضيافة وحسن خلق، كما كشف لنا عن المعطف الذي كان يرتديه السبيعي كثيراً، وكيف كان اعتزازه به، إذ إن المعطف كان يرتديه قبله الشريف الحسين بن علي، ملك الحجاز، وأن هذا المعطف كان من نصيب السبيعي بعد ضم الحجاز لحكم الملك عبد العزيز.
يقول أسد في كتابه «الطريق إلى مكة» ما يلي: (توجهنا مباشرةً إلى منزل صديقي عبد الرحمن السبيعي، وكان في ذلك الوقت مسؤول بيت المال للولاية.
ترجلنا أمام الباب المفتوح لمنزله، ونادى «زيد» من الفناء: «يا ولد»، وعندما ظهر الخادم من داخل البيت مسرعاً، قال زيد لديكم ضيوف.
بينما كان زيد مشغولاً بحط الأحمال عن الجمال بمساعدة الخادم في فناء البيت، تصرفتُ كأنني في بيتي، وأشعل خادم آخر النيران تحت إبريق القهوة.
وبمجرد أن ارتشفتُ أول رشفة ارتفعت أصوات من الفناء، أصوات أسئلة وإجابات: لقد عاد صاحب المنزل.
#2#
من فوق درج السلم، وقبل أن أراه كان صوته يرتفع مرحباً، ثم أطلّ من الباب وذراعاه مفتوحتان في ترحيب: «كان رجلاً رقيقاً قصير القامة واللحية، له عينان ودودتان في وجه بشوش. وعلى الرغم من حرارة الجو كان يرتدي معطفاً طويلاً من الفرو تحت العباءة.
كان ذلك المعطف أحد أهم مقتنياته، لا يكلُّ أبداً من إعلام من لم يعلم تاريخ ذلك المعطف الذي كان ذات يوم من ممتلكات ملك الحجاز السابق الشريف حسين، وقد كان من نصيب عبد الرحمن عندما شارك في دخول مكة المكرمة سنة 1343هـ، ولا أذكر أنني رأيته من دون ذلك المعطف قط.
احتضنني بحرارة، وشبك على أطراف أصابعه ليتمكن من تقبيلي على الخدين.
وترحيبه بنا لا ينقطع «أهلا وسهلاً ومرحباً، أهلا بك في بيتي المتواضع يا أخي، مباركة الساعة التي ساقتك إلى هنا».
تلت الترحيب الأسئلة التقليدية: من أين وإلى أين؟ وحال الملك والأمطار؟ وإن كنتُ سمعت أيّ أخبار عن سقوط أمطار، كان من المعتاد تبادل كل الأخبار العربية مشافهة، قلت له إن عنيزة في قلب نجد هي مقصدي، لم يكن ذلك دقيقاً تماماً إلا أنه لا يبعد كثيراً عن الحقيقة.
كان عبد الرحمن في أعوام سابقة، يعمل بالتجارة بين نجد والعراق، وكان معروفاً لتجار البصرة والكويت، ولم يكن من الصعب دفعه إلى الحديث عن تلك الأماكن وعن الذين قدموا أخيرا منها.
عرفتُ من عبد الرحمن أن أحد أبناء عائلة البسام المشهورة في عنيزة - وهو أحد معارفي القدامى - قد مر بالكويت وهو عائد من البصرة، وأنه تجنب المرور بأماكن المتمردين تجنباً للمخاطر، لذلك عاد عن طريق البحرين إلى نجد، وهو في شقراء في الوقت الحالي وأنه سيرسل في طلبه لو أردت لقاءه، وطبقاً لعادة عربية متأصلة كان الواصل حديثاً إلى مكان، يزار ولا يزور، بعد فترة قصيرة كان عبد الله البسام قد انضم إلينا في مجلس القهوة في بيت عبد الرحمن.
لم يكن عبد الله البسام على الرغم من انتمائه إلى أكبر عائلة تجارية في نجد، ميسور الحال.
لم تقتصر خبراته في الحياة على منطقة نجد، بل شملت القاهرة وبغداد والبصرة والكويت والبحرين وبومباي، يعرف كل من له شأن في تلك البلاد ولديه معلومات عن كل ما يجري في البلاد العربية، أخبرته أن إحدى الشركات الألمانية كلفتني بالبحث عن وكيل مناسب لتصدر له معدات زراعية في البصرة أو الكويت، ولأن الشركة تعرض عليّ عمولة كبيرة فأنا مهتم بالتوصل إلى أنسب التجار في المدينتين.. ويضيف محمد أسد قائلاً: أراد عبد الرحمن السبيعي أن يستبقيني في ضيافته بضعة أيام، ادعيتُ له أن أمامي أعمالاً تجارية مهمة.
تركنا نغادر في الصباح، بعد أن أضاف إلى مخزوننا من المؤن كمية من لحم الجمال المجفف (القديد) وكانت إضافة شهية إلى طعامنا المحصور في أصناف بسيطة.
وأصر على أن أزوره في طريق العودة ولم أجد ما أُجيب به إلا إن شاء الله.
#3#
وكتثمين لما قام به الشيخ عبد الرحمن السبيعي من أدوار مالية مهمة، فإن الشيخ الأديب عبد الكريم الجهيمان، وهو الشاهد على عصر السبيعي وأدواره، وقد سكن لديه في مدينة مكة المكرمة، يرى أن للسبيعي ووالدته مكانة عند الملك عبد العزيز ومنزلة عالية، وكان الملك عبد العزيز إذا مرّ بشقراء فإنه لا ينزل إلا في بيت السبيعي، ويرى الجهيمان أن السبيعي كان مرشحاً ليكون وزيراً للمالية قبل عبد الله السليمان، إلا أن الملك عبد العزيز اختار الشيخَ عبد الله السليمان لقوة شخصيته، ومع ذلك فقد بقيت مكانة السبيعي عند الملك عبد العزيز عالية وأحاديثه ورواياته كانت تلقى عند الملك رضاً وقبولاً منقطع النظير، حسب كلام الجهيمان.
السبيعي.. المثقف والأديب النابه
يحظى الشيخ عبد الرحمن السبيعي بحظٍ وافر من الثقافة واطّلاع واسع على الأدب والشعر بنوعيه، الفصيح والشعبي.
فقد تلقى تعليماً أولياً في مسقط رأسه لدى أهم معلميها في الكتاتيب، ثم انتقل إلى الرياض ودرس على علمائها، كما أن ترحاله وسفره وهو في ريعان شبابه إلى العراق والهند ومصر وتعاملاته مع التجار النجديين وغيرهم في تلك الأقطار ساعد على تنمية معرفته وتوسّع ثقافته ومداركه.
ويُذكر أنه كان قارئاً جيداً لكتب التراث. من ذلك أن الشيخ أبا عبد الرحمن بن عقيل الظاهري يذكر أن أهل شقراء مشهورون باختراع النكتة تلقائياً، وبالجواب البدهي الحاضر، لكنه يرى أن لعبد الرجمن السبيعي أثراً في تنحيل بعض الطرائف لبعض الأهالي، فكثير من الطُرف المنسوبة لبعض أهالي شقراء موجودة في كتب الطرائف العربية كالبصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي.
كما أن للسبيعي الكثير من الحيل والقصص التي تروى، والتي تدلُ على ذكائه ومرحه.
يقول الدكتور عبد العزيز الخويطر في مقدمته لكتاب «مقتطفات من القصص والنوادر والأمثال والأشعار النجدية» لعبد الرحمن المانع، ما يلي: «وقصص حيل عبد الرحمن السبيعي لا تملك نفسك من الإعجاب بما يأتي منه في هذا المجال، كما في قصة إيهام الحاضرين بأنه سيعود إليهم، لكن السبيعي وقع ذات مرة على باقعة أبطل له حيلته، ولا يفل الحديد إلا الحديد.. والسبيعي ما عُرف عنه من طرائف قليل منها ما نُشر، أو فيه قابلية للنشر، لأن بعضها تعليق على ما قد لا يجيزه الرقيب».
#4#
أما قصة إيهام الحاضرين بأنه سيعود إليهم، فقد أوردها المانع في كتابه، والقصة هي أن السبيعي إذا حضر لمجلسه ووجد أشخاصاً من أصحاب الحقوق فإنه يقوم بخلع بشته ويعلّقه أمامهم في المجلس ليوهمهم بأنه سيعود، ثم يدخل البيت ويأخذ بشتاً غيره، ويذهب خارج البيت ويتركهم ينتظرون، فإذا تأخر كثيراً خرجوا.
وفي يوم من الأيام عمل السبيعي هذا العمل وخرج الحاضرون جميعاً إلا شخصا واحدا تأخر بعدهم، ثم أخذ البشت وخرج به، فلما عاد السبيعي لم يجد البشت، فتوقف بعد ذلك عن تعليق بشته أمامهم!
ويُنسب للسبيعي المثل النجدي القائل «نزيد له بصفحة» وقد أورده الأديب عبد الكريم الجهيمان في كتابه الموسوعي الضخم «الأمثال الشعبية» وقصته أنه نتيجة لكثرة تعاملات السبيعي مع تجار نجد، حاضرة وبادية، يكون عليه التزامات تجاههم، فإذا جاء وقت الوفاء تجمعوا في بيت السبيعي، وقد أحضر كل واحد منهم مطالبته بالدين الذي حلّ أجله، لكن السبيعي ما إن يجتمعوا حتى يطلب من أحد طلبة العلم بقراءة أحد كتب التفسير! وأثناء القراءة لا يستطيع أحد أن يتجرأ على الكلام والمطالبة بحقه، فيبدأون ينسلّون واحد تلو الآخر! وذات مرة سأل السبيعي أحد العاملين لديه: هل بقي أحد من المطالبين؟ فقال نعم بقي شخص واحد! فقال السبيعي: نزيد له بصفحة!
ومن طرائف السبيعي ما ذكره المانع في كتابه من أن السبيعي كان يصلي ذات يوم في الحرم المكي الشريف، وكان بجواره عالم من علماء مصر، فجلس يتحدث إليه، فبادره المصري قائلاً: من أين أنت يا شيخ عبد الرحمن؟
فقال السبيعي: من نجد! فقال المصري: آه من بلد مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة!
فرد السبيعي قائلاً: وأنت من أين؟! فقال: من مصر.
فرد السبيعي عليه قائلاً: من بلد فرعون الذي ادعى الألوهية، فضحك المصري وقال: واحدة بواحدة.
غداً الحلقة الأخيرة