المتدين وإشكالية إدارة المجتمع ( 9 من 10)
لعل أهم موضوع تهتم به شعوب العالم وأممها في عصرنا الحاضر هو التنمية، والتنمية ليست النمو الاقتصادي ولا التطور المادي فقط ولا مجرد اقتناء ما هو جديد أو حديث من وسائل الحياة ومنتجاتها، فالتنمية عملية مستمرة للنهوض والارتقاء بجميع أبعاد الحياة الإنسانية، فهي عملية مستمرة وعملية متعددة الأبعاد، وعملية محورها الإنسان. التنمية المستدامة، التي هي اليوم هدف دول العالم قاطبة، تقوم على ثلاثة أسس: استمرار، شمولية، وإنسانية. لكن ليس بمقدور المجتمع أن يحقق مثل هذه التنمية، وهو ليس عنده دراية بتنظيم أموره، فإدارة المجتمع نفسه هو الوعاء الذي يوفر للجهود والموارد أن تتفاعل فيما بينها لتحقيق ما يرجو ويهدف إليه المجتمع، والحكمة روح الإدارة، فمن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، فالفوضى لا تنتج التنمية، وهذه هي الإشكالية، نطلب التنمية ونعيش الفوضى. لا بد من أن نبحث عما يقوض كفاءتنا في إدارتنا مجتمعاتنا، وهل هناك علاقة بين قراءتنا الدينية لأمور الحياة وبين مشكلاتنا الإدارية؟
التنمية لا تحدث إلا في وعاء إداري منظم ومنضبط، لأن الإدارة هي الاستخدام الحكيم للموارد المتاحة، وأهم هذه الموارد وأثمنها هو الإنسان، فمن دون إدارة الإنسان نفسه بكفاءة تخسر التنمية أهم مورد لها، وهذا ما يجعلها تنمية غير حقيقية، فما يميز إدارة اليوم، التي باتت من الضرورات لإحداث نقلة تنموية مستدامة وشاملة، هي إدارة تهتم بالإنسان وتتمحور حوله بعكس ما يفهمه الإنسان المتدين للإدارة، فالإدارة من وجهة نظر المتدين نظام يهتم بالإنسان، لكن من خلال عدم الثقة به، فالإدارة سيادة وتسلط وسلطنة على الآخرين، وهناك إيحاءات بأن الإدارة لا يستقيم أمرها إلا بالخضوع والطاعة والاستسلام. فلا تجد في مفهوم الإدارة التي يتبناها المتدين ما يوحي بأن هناك اهتماما وتأكيدا على التحاور والتواصل والتشاور والمشاركة، فهناك توجس من هذه الأمور، وهي مما يعتقد أنها من الأمور التي تضعف الإدارة لا أن تحسنّها أو تزيد من كفاءتها.
هناك عدة أمور يمكن ذكرها والتعرض لها في صدد مناقشتنا هذه الإشكالية، ومن هذه الأمور ما يلي:
1 ـ هل الإدارة أمر ديني أم دنيوي؟ هل نحن بصدد قضية دينية أم دنيوية؟ هناك من يفهم شمولية الدين بشكل خاطئ، فالمعرفة والعلوم والطب حتى الإدارة يجب أن تؤسلم، ومثل هذا الفهم الخاطئ للشمولية الذي لا يريد أن يكون للإنسان مساحة يتحرك فيها في دائرة الدين هو الذي جعل الإنسان المتدين يقبل بأشكال إدارية وأنماط تنظيمية قديمة لا تتناسب ومتطلبات الحاضر، ولا تنسجم مع التطور المستمر في العلوم الإدارية، فالإدارة عندما نلبسها بلباس ديني تكتسب قدسية في شكلها وتفاصيلها ويصعب علينا تطويرها وتحديثها، وهي في الأساس ترتبط بشؤون الإنسان المتغيرة والمرتبطة بالزمان والمكان والظروف المحيطة، فعلينا أن نعيد الإدارة إلى مكانها الطبيعي، وهي دائرة الدنيا، وأن نجعلها من اختصاص الإنسان، وهذا لا ينتقص من الدين شيئا، ولا يعيب المتدين بشيء، لأن الشمولية الحقة للدين هي باستعادة الإنسان دوره الطبيعي في الحياة، فأنسنة الإدارة وليس أسلمتها هي ما يدعو إليها الدين، فكلما استطعنا أن نجعل من إدارتنا إنسانية اقتربنا من الدين والعكس صحيح حتى ولو أردنا غير ذلك.
2 ـ الإدارة ليست سلطنة: هناك من ينظر إلى الإدارة على أنها جزء من السلطة السياسية وليست شأنا من شؤون الدولة، وبالتالي فما يحدث من فساد أو خراب في السياسة يظهر أثره في إدارة المجتمع نفسه. فعلينا أن نخرج الإدارة من سلطة السياسة وأن نخضعها للقانون، وبذلك نستطيع أن نحصن الإدارة من أهواء السياسة، وهذا ما فعلته الدولة المتقدمة بتفعيلها الإدارة المحلية ومأسسة المجتمع وبفصلها الإدارة المحلية عن إدارة الدولة المركزية. وهذا الخلط بين السلطة والإدارة هو الذي جعل المتدين ينظر بعين الشك إلى كل من يدعو إلى استخدام أو تبني الأفكار والأنظمة الإدارية التي أنتجتها الأمم والمجتمعات الأخرى، بحجة أنها لا تنسجم وما عندها من ثقافة وموروثات دينية وتجارب سابقة، وهي التي جعلت أيضا المتدين لا يرتاح لوجود أو مشاركة غير المتدين في إدارة المجتمع بحجة أن عدم تدينه ينتقص من نزاهته حتى مع كفاءته وأهليته، بل بعض الأحيان تجعله غير متعاون مع هذا الكفء غير المتدين إذا ما اضطر إلى القبول به في موقع من المواقع الإدارية. الثقة والاستئمان ضروريان في العمل الإداري، والمتدين يعتقد أنه من الصعب عليه أن يعطي ثقته لغير المتدين، أو أن يستأمن على المجتمع إنسانا غير متدين، وهذا الذي أوقع المجتمعات الإسلامية في تخبط إداري وجعلها غير قادرة على أن تخرج قيادات إدارية ناجحة.
3 ـ افتقاد روح الجماعة وثقافة العمل الجماعي: إن بعض المتدينين هم أكثر الناس والجماعات حبا للاختلاف والتنازع، فالخطاب الديني بالعموم، وعلى الرغم من أنه يدعو في الكثير من أدبياته إلى الوحدة والألفة بين الناس وعدم الانجرار إلى الكراهية والتنازع، إلا أنه ينسف كل هذه الأمور ويزيحها عن طريقه في الميدان العملي، فهو في العمل أحادي النزعة، وهو يعتقد أنه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة وغيره إنسان آخر مختلف، وهو مشغول بتوسيع مساحة الاختلاف أكثر ما هو مهتم بتكبير مساحة الالتقاء والمشاركة. التدين بشكله الحالي لا ينتج لنا ثقافة تؤسس للعمل الجماعي، وهذا ما نفتقده كثيرا في إدارتنا لمؤسساتنا. العمل الجماعي والمشاركة في العمل باتا اليوم في صلب الإدارة الحديثة، فالعمل الجماعي افتقدناه في ممارساتنا الإدارية بسبب تدين أقمناه على الاختلاف والخلاف وليس على الحوار والتواصل والائتلاف، فديننا يدعو للجماعة، لكن تديننا ينتج لنا ثقافة تعاكس هذا التوجه، وهذه هي أحد أوجه إشكالية المتدين مع الإدارة.
4 ـ الإدارة والعدالة الاجتماعية: من المؤسف أن العدالة الاجتماعية ليست بتلك القضية المهمة عند المتدين، فهناك استعداد ثقافي عند المتدين للقبول بالظلم والتعدي على الحقوق أكثر من استعداده للعمل والاجتهاد لتحقيق العدل، وبما أن الإدارة وسيلة مهمة لتنظيم الحقوق والواجبات وترشيد العلاقة بين الناس في الإطار الذي يحفظ مصالحهم، فإنها هي الأخرى نالها القليل جدا من الاهتمام من قبل المتدين. إننا نفتقد الكثير من مظاهر العدالة في حياتنا، ولعل من الأسباب الرئيسة والمهمة وراء ذلك سوء تنظيمنا أمورنا، وهذا السوء في التنظيم نتيجة لإدارة ضعيفة ومهلهلة في كثير من مؤسساتنا الاجتماعية والخدمية. لا يمكن لنا كمجتمعات أن نتطور إداريا ونحن لا نؤمن بأن الإدارة وسيلتنا لتحقيق العدالة الاجتماعية، فتطورنا الإداري يتطلب منا أن نستعيد مفهوم العدالة في ثقافتنا، فمن دون عودة العدالة كقيمة إنسانية في ثقافتنا سنبقى في تخلف إداري، وهذا التخلف بدوره سيقلل من فرص نجاح خططنا التنموية.
في الختام، نعود مرة أخرى إلى المفهوم الحديث للإدارة، وهو التأكيد على الحكمة في استخدام الموارد مع وجود أهداف واضحة، فإشكاليتنا مع الموضوع الإداري أننا نفهم الإدارة على غير ما تعنيه من حكمة وترشيد وانضباط في العمل، والوجه الآخر في هذه الإشكالية جانب ثقافي، فالإدارة لا تعيش ولا تنهض في مناخ ثقافي يفتقد العمل الجماعي، ولا يرى أن العدالة لها ارتباط مباشر بالإدارة. وهذه الأمور تجعلنا في حاجة إلى إعادة إنتاج الكثير من الرؤى والأفكار التي نأخذ بها، وإعادة الإنتاج هذه لا يمكن أن تتم في غياب قراءة واعية وعميقة للكثير من أمورنا الدينية والتاريخية.