تقسيم الأدوار بين التحريض والتنفيذ

بدأت السنة اليهودية الجديدة وبدأت معها مخططات إسرائيل لهذه السنة. ولأن إسرائيل دولة براجماتية فهي تقر وتعترف بين وقت وآخر بأن خططها ـــ خاصة الاستراتيجية ـــ هي خطط الولايات المتحدة. لقد علمتها التجربة أن عصيان أمريكا وبال عليها. عندما تحدى بن جوريون أيزنهاور عام 1956 أثناء حرب السويس أو العدوان الثلاثي على مصر، كان رد أيزنهاور ودالاس قاطعا: الانسحاب الفوري. وعندما وقعت حرب 1967، كان التنسيق بين ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي وبين ليندون جونسون على أشده، حيث كان عبد الناصر في صعود ودعاوى القومية العربية والتصدي في ذروتها ـــ وجاءت الضربة في الخامس من حزيران (يونيو) عام 1967 قاصمة شديدة، ويدرك الإسرائيليون أن الولايات المتحدة هي التي زودتهم تسليحا وتدعيما واقتصادا لتحقيق هذه النتيجة. أما حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 فقد فضلت أمريكا أن تترك لمصر وسورية فرصة رد الاعتبار؛ لذلك عطلت ليبرتي والأقمار الصناعية عن تتبع الإعداد للحرب والدخول في أتونها بصفة مبدئية.
وتوالت الأحداث في لبنان ثلاث مرات، لم تحقق فيها إسرائيل مبتغاها بسبب عدم استشارة ولية نعمتها وراعيتها، وتجشمت إسرائيل خسائر فادحة. وأيقنت تل أبيب أن الكبير كبير والصغير صغير، ولكي تحقق إنجازا كبيرا يلزمك دائما دعم الكبار. من هنا يلاحظ المراقبون للموقف الغربي من إيران تلاحما واضحا بين إسرائيل والولايات المتحدة في هذا الملف. يفضح ذلك تحليل مضمون المواد الإعلامية الصادرة عمدا أو صدفة عن كل من إسرائيل والولايات المتحدة. وتتركز السياسة الإسرائيلية في موقف أساسي هو المبالغة في تهويل قوة إيران ـــ وهنا مكمن السخونة، حيث تم ضرب العراق بعد الحديث المطول عن رابع أكبر جيش في العالم وعن الأسلحة النووية التي يمتلكها العراق.
وجنبا إلى جنب مع ذلك تبالغ إسرائيل في سياسة الغموض النووي تاركة للولايات المتحدة مسألة التصدي لأي فضح لإسرائيل أو ضغط عليها في هذا الصدد. لكنها تنعش الإعلام العالمي كلما سمحت الظروف ببيانات حول حقيقة البرنامج الإيراني، والذي تصفه إسرائيل بأنه في حالة نمو وتطور ـــ مع أن هناك إجماعا على أن البرنامج يمر بمرحلة خفوت وفتور. والشق الواضح في التحريض الإسرائيلي يتمثل في قضية الوقت، فإسرائيل تصرّ على أن إيران اقتربت، مع أن الولايات المتحدة تعتقد أن الوقت ما زال طويلا لتحقيق ذلك. ويقف الشريكان الأمريكي والإسرائيلي عند اختلاف تقييمهما حول ''العام الواحد''، الذي اتفق على أنه الفاصل الزمني بين تنفيذ البرنامج والصعود إلى مرتبة الدول النووية. فأمريكا ترى أن عاما كاملا فترة طويلة، وإسرائيل تستعجل الضرب الأمريكي وتتذرع بأن العقوبات الدولية والنشاط الدبلوماسي تستغرق وقتا طويلا لا يتناسب مع الإجراءات الرادعة المطلوبة.
ويدخل الإسرائيليون في جدل حول توصيف القدرة النووية، التي يعلنون أنها ''الحالة التي تصبح الدولة فيها قادرة على إنتاج سلاح نووي في فترة قصيرة نسبيا (ثلاثة أشهر مثلا)''. وفي حالة إيران يمكن تحقيق ذلك إذا حصلت على كمية كافية من اليورانيوم المُخصب (20 في المائة) ليصل بالتخصيب إلى درجة الـ 90 في المائة لإنتاج القنبلة النووية، أو إذا كان هناك تدفق لليورانيوم المُخصب من مخزون اليورانيوم ذي الـ 3.5 في المائة نسبة التخصيب. وكان الرئيس الإيراني قد أعلن قبوله فكرة تخفيض نسبة التخصيب إلى 20 في المائة مقابل حصوله على وقود للمفاعل. واعتبرت إسرائيل ذلك نوعا من الابتزاز؛ لأنه لن يستطيع الحصول على هذا الوقود من أي مصدر، فضلا عن أنه غير ضروري؛ لأن باستطاعة إيران شراء الايزوتوب (النظائر) الطبية من السوق العالمية بسهولة.
وتتحدث إسرائيل عن عوامل عدة حول الملف النووي الإيراني، منها:
ــ أن المشروع النووي يتمتع بتأييد شعبي جارف.
ــ أنه جزء من العزة الوطنية الإيرانية.
ــ أنه لا توجد حكومة إيرانية يمكنها التخلي عن المشروع.
ولهذا السبب، فإن القوة هي الوسيلة الوحيدة التي ينبغي اللجوء إليها للقضاء على المشروع النووي. ولعل نجاح إسرائيل في إجهاض المشروع النووي العراقي تقبل المشد وغيره من العلماء وضرب المفاعل ينعش أحلامها في تكرار الموضوع مع إيران، لكنها عندما تأكدت أن الموقف التوبوغرافي والجغرافي مختلف، قررت دفع واشنطن للقيام بهذه المهمة، بينما ترى واشنطن أنه بالإمكان إقناع إيران بالحصول على قضبان وقود تحت إشراف دولي دقيق؛ ما يبعدها عن التفكير في إنتاج أسلحة نووية. لكن إسرائيل ـــ وهي الطرف الأكثر حماسا في احتواء إيران وإضعافها كجزء من استراتيجية إضعاف جميع الدول الكبرى في المنطقة لتكون لها اليد الطولى (بقوتها النووية التي ستستأثر بها) ـــ ترى أن أي خروج على فكرة ضرب إيران لن يفلح في إيقاف ''الخطر''؛ لأن إيران لن تتوقف أبدا عن التفكير في إنتاج السلاح النووي.
ولا يوافق أوباما على المشروع الإسرائيلي، وليس لديه بدائل مريحة لإسرائيل، خاصة أن خيار الاحتواء الذي تزمع أمريكا تنفيذه غير عملي بسبب موقف دول المنطقة الأخرى؛ لذلك نسمع الصياح الإسرائيلي في وسائل الإعلام يتخذ شكلين:
الأول: الخطورة الهائلة على دول الخليج.
الثاني: ضعف هيبة أمريكا وانهيار صورتها بشكل يصعب التعامل معها.
وتحدد إسرائيل طلبها: وهو شن هجوم أمريكي يستهدف المنشآت النووية الإيرانية وجميع الصناعات المرتبطة بها؛ لأن إسرائيل لا تستطيع القيام بضربة قاصمة حاسمة. أو على الأقل تسخير القدرات الجوية والبحرية في المنطقة لتخويف إيران، ودون تحديد فترة زمنية للخروج من المنطقة وحتى تدرك إيران أن مشروعها مكلف وينطوي على خسارة أمور كثيرة.
ويبقى السؤال الأصعب: هل ستتحرك إسرائيل إذا قررت أمريكا عدم اتخاذ إجراء حاسم؟ والإجابة التي يطرحها الإسرائيليون هي أن أمريكا لا تفضل التدخل لتبقي اللوم على إسرائيل في مواجهة العالم الإسلامي الذي لا تنوي أمريكا مواجهته، خاصة بعدما فشلت حملاتها الإعلامية في إقناع العالم بنيتها واعتبار إيران هي الشيطان الأوحد.
وهناك نقطة يروّج لها الإسرائيليون، وهي استحالة وقوفهم وتراجعهم عن ضرب إيران لصعوبة إقناع الرأي العام الإسرائيلي، خاصة بعد ما تمت استثارته وتهييجه. إنها خلافات بين حلفاء على تخطيط وتنفيذ عمل في غاية الخطورة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي