لنعيد النظر في تفعيل وزارة الأشغال...

إننا نعلم اليوم أنه وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، أن الدولة تحظى بميزانية جديدة كل عام تفوق السنة التي قبلها؛ ما مكنها من المضي في بعض تلك المشاريع التي علقت نتيجة ترتيب أولويات المشاريع وفق الحاجة والضرورة وتوافر الميزانية الخاصة لها. بل أصبحت هناك مشاريع بادرت بها الدولة لخدمة استراتيجيتها لسنين تأتي، وما الجامعات ومدن الطاقة وكذلك الأودية العلمية والمستشفيات والمدارس إلا دليل واضح على ذلك. إلا أن المشاريع انقسمت إلى قسمين رئيسين، وذلك من حيث التنفيذ والإشراف، وهي مشاريع أوكلت إلى شركة أرامكو؛ لخبرتها وتوافر تلك القوائم المعتمدة من المكاتب الاستشارية والمقاولين والموردين حسب المواصفات التي أقرتها «أرامكو» على مدى السنين وخبرتها في إدارتها. والقسم الثاني مشاريع أخرى تم أو يتم تنفيذها وفق تلك المعايير التي تعمل بها الدولة منذ سنين والتي غالباً ما يكون هناك فجوات فنية تؤثر في سرعة الإنجاز والجودة وتفاوت المقاييس للمشروع الواحد وبالتالي المشاريع الحكومية.
ولعلي أشير هنا إلى أننا لو قارنا بين بعض المباني الحكومية التي أنشئت منذ 30 عاماً أو يزيد سنجد أن جودتها وناتجها النهائي يختلفان عن ما أنجز لاحقا. فجودة المباني التي أنشئت حينما توافرت الخبرات الدولية التي ترتكز عليها منظومة الإنشاءات هي أعلى جودة من تلك التي اعتمدت كلياً على خبرات محلية 100 في المائة، وأنا هنا لا أقلل من قدر الشركات الإنشائية والمكاتب الاستشارية المحلية، بل اللوم يكمن في أننا لم نطور أنفسنا لنواكب التطور الذي طرأ على إدارة إنشاء المشاريع، وبالتالي رفع معايير الجودة التي تحتم على المقاولين والمطورين من رفع أداء أعمالهم وجودة منتجاتهم، وبالتالي الرقي بمستوى المشاريع كمنتج نهائي، ناهيك عن أن قبولنا بأدنى المعايير سيكلف الدولة مبالغ باهظة تثقل كاهلها من حيث التشغيل والصيانة. ولعل ما يؤثر سلباً في جودة المشاريع وعدم وجود المعايير الثابتة يكمن في التالي:
أولاً: هناك تغييب لمفهوم إدارة المشاريع، فإدارة المشروع من أهم أسباب نجاحها هو عدم حيازية مدير المشروع مع المقاول وإلغاء تضارب المصالح مع المصمم، فغالب مشاريع الدولة اليوم تشرف عليها الجهة التي قامت بالتصميم، وبذلك تنتفي المتابعة اليومية للوقت والجودة وتطبيق المواصفات المعتمدة من قبل المصمم المبنية على المعايير الخاصة بالعميل، آخذين بعين الاعتبار أن كثيرا من المشاريع لا يوجد لها كتيب مواصفات أو رسومات تفصيلية من قبل المصمم، بل تترك هذه الرسومات للمقاول، وهنا يتبين حتماً تضارب المصالح.
ثانياً: قلة المقاولين المعتمدين لمشاريع كبيرة، ونلاحظ أنه رغم وجود ثلاث من كبرى الشركات السعودية التي تتولى غالب مشاريع الدولة قد أسهمت كثيرا في تطوير صغار المقاولين من خلال التنفيذ بالباطن، إلا أننا لم نستطع تأهيل مقاولي إنشاءات عالميين، وكذلك الاعتماد عليهم ببعض المشاريع. ولا أقصد قطاع النقل (القطارات)، بل مقاولي (إنشاءات المباني). إن وجود هذه الشركات العالمية سيعزز التنافسية للمقاولين المحليين، وبالتالي رفع جودة المقاول المحلي.
ثالثاً: إن المكاتب الاستشارية المحلية الكبرى انشغلت كثيراً بما لديها من مشاريع عن تطوير ذاتها ولم يفسح المجال لمكاتب استشارية أصغر، خصوصاً تلك المكاتب التي لديها تحالفات دولية، ولأننا لم نبلغ أدنى الكمال بعد فإنه لا بد من أن نستعين بالخبرات العالمية لنقل المعرفة محلياً.
رابعاً: إن شركات الصيانة والتشغيل تقدم أدنى الخدمات، وبالتالي هناك غياب لأفضل الممارسات العالمية في مجال الصيانة والتشغيل، الذي لا يحقق الفائدة المرجوة على المدى الطويل؛ وهذا ما يجعل تكاليف الصيانة والتشغيل على المدى الطويل عبئاً على الدولة.
خامساً: تكتمل منظومة الإنشاءات بوجود المواصفات والمعايير الثابتة والتي لا يسمح بقبول غيرها أو المجاملة فيها وفي الوقت ذاته العمل على تطويرها. ولعل وجود مرجعية لهذه المنظومة سيعزز من جودة المشاريع وسرعة الإنجازات.
ومن وجهة نظري الخاصة، أنه لا بد أن يكون لمشاريع الدولة مواصفات ومقاييس (معايير) ثابتة تختلف حسب القطاعات، فالمباني الإدارية كالوزارات وخلافه والقطاعات الصناعية والقطاع التعليمي على اختلاف احتياجاتها تبقى الجودة عاملا أساسا، رغم اختلاف هذه القطاعات. إن نجاح هذه المشاريع من حيث المواصفات والمقاييس يكمن في وجود مرجعية مركزية تتولى الإشراف على مشاريع الدولة وتمكن القطاعات الحكومية الأخرى من أداء وظائفها الأساسية التي أنشئت من أجلها دون إشغال نفسها بالمشاريع التي تتعلق بها. فتلك الوزارات هي عميل لهذه المرجعية المركزية جدلاً لنسميها وزارة الأشغال.
فلو أعيدت وزارة الأشغال لاستطاعت أولاً أن تقوم بتفعيل مبدأ إدارة المشاريع بحيث تكون جميع المشاريع الحكومية تحت إدارتها لتتولى صلاحيات ترشيح المقاولين ووضع معايير خاصة بقبولهم، ناهيك عن أن حجم المشاريع سيعزز من تحديد أفضل الأسعار للحصول على أفضل جودة ممكنة من ناحية، ومن ناحية أخرى ستعمل هذه المرجعية (وزارة الأشغال) على تأكيد سير المشاريع على أكمل وجه بحيث خصمها (العميل) سيكون على قدم وساق من التأكد على أن مشروعه يسير على أكمل وجه، كما سيسهل دور هيئة الرقابة في التدقيق على مصروفات المشاريع ورفع مستوى الإصلاح الإداري فيها.
الدار المتخصصة للاستشارات

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي