هيئة الاستثمار .. أين الخلل؟ (1 من 3)

النقد الذي تعرضت له الهيئة العامة للاستثمار خلال الأسابيع القليلة الماضية سببه أن محاكاتنا للتجارب العالمية الناجحة تكون في أحيان كثيرة منقوصة ومجتزأة بصورة تجعلنا غير قادرين على تكرار النجاح الذي حققته تلك الدول التي نحاول محاكاة تجاربها، بالتالي تفشل الجهة المسؤولة في الحصول على أي تعاطف أو تقدير لجهدها من قبل المواطن الذي لا يرى نتائج إيجابية ملموسة على أرض الواقع، الذي تؤكده النظرة السلبية لهيئة الاستثمار في المجتمع السعودي. من يرغب في نقل تجربة ناجحة عليه أن ينقلها بكامل عناصرها لا أن يختار ما يحلو له ويترك ما لا يروق له، أو يتطلب جهداً وعملاً دؤوباً قد لا يكون مستعدا لبذله. وكي نقوم تجربة الهيئة العامة للاستثمار وواقع التخطيط الاقتصادي في المملكة بشكل عام، فما علينا إلا أن نقارن أداءنا بأداء دول أخرى خاضت التجربة نفسها بنجاح وتميز مشهود، وحيث إن سنغافورة مثال رائع لنجاح سياسات استقطاب الاستثمار الأجنبي والأداء المبهر للتخطيط الاقتصادي فلنقارن بها، ولنبدأ أولاً بسياسات استقطاب الاستثمار الأجنبي.
سنغافورة التي استقلت عام 1959 وانضمت إلى الاتحاد الماليزي لتنفصل عنه عام 1965, كانت دولة فقيرة يعاني سكانها معدلات عالية من الفقر والبطالة، وكما لو أن هذا الوضع المزري لم يكن كافيا قررت بريطانيا عام 1967 إغلاق قاعدتها البحرية التي كانت توظف 20 في المائة من إجمالي قوة العمل السنغافورية. وفي ظل هذا التحدي رأت الحكومة أن أفضل خيار أمامها هو تبني استراتيجية اقتصادية تتحول بها سنغافورة من بلد يعتمد على مجرد كونه مركزاً على طريق رئيس للتجارة العالمية إلى بلد صناعي يحقق معدلات نمو اقتصادي عالية تتحسن معها مستويات المعيشة لمواطنيها بشكل كبير. واستهدفت استراتيجيتها الصناعية في بداياتها تلبية حاجة السوق المحلية من السلع الصناعية، إلا أن نجاحها المذهل في تحقيق هذا الهدف جعلها تحور هذا التوجه إلى استراتيجية تستهدف السوق العالمية بمنتجاتها، وكان العائق أمام تحقيقها ذلك أن منتجاتها غير قادرة على المنافسة عالميا.
فلكي تكون السلع المنتجة محليا قادرة على المنافسة عالميا يلزم أن تكون في مستوى عال من الجودة، وسنغافورة لا تملك التقنية أو الخبرة التي تمكنها من ذلك، لذا راهنت على الاستثمار الأجنبي ليحل لها هذه الإشكالية. إلا أنها لم تسع إلى استقطاب أي استثمار أجنبي, إنما فقط استهدفت استقطاب الشركات الرائدة pioneer's companies على مستوى العالم، في كل صناعة من الصناعات التي استهدفت تطويرها، ولتضمن نجاحها في ذلك منحت هذه النوعية من الشركات العالمية حوافز وإعفاءات ضريبية تفوق ما تمنحه لها أي دولة أخرى في العالم. من ثم تدفقت استثمارات أجنبية عالية النوعية مشكلة أهم مصادر النمو الاقتصادي الذي حققته سنغافورة خلال العقود الثلاثة الماضية، بحيث يوجد الآن ما يزيد على ثمانية آلاف شركة متعددة الجنسية مستثمرة في سنغافورة، حتى أن بعضها نقلت إداراتها الرئيسة إلى سنغافورة.
وهيئة التنمية الاقتصادية Economic Development Board EDB, وهي الجهة المسؤولة عن استقطاب الاستثمار الأجنبي في سنغافورة, تعمل بتنسيق تام محكم متواصل مع كل الجهات الحكومية وغير الحكومية ذات العلاقة لضمان نجاح استراتيجياتها في تحقيق أهدافها بدقة. على سبيل المثال، الشركات الرائدة التي يُسعى إلى استقطابها يطلب منها تحديد احتياجاتها من الموارد البشرية عالية التأهيل بكل دقة، فتقوم الهيئة مباشرة ومن خلال التنسيق مع الجهات الأخرى المعنية بوضع برامج تدريبية تتحمل الحكومة السنغافورية كامل تكاليفها تستهدف بناء موارد بشرية محلية عالية التأهيل تلبي تلك الاحتياجات بكفاءة متناهية، بحيث لا تجد تلك الشركات نفسها مضطرة إلى تلبيتها من خلال عمالة أجنبية تستقدمها، ووصل نجاح سنغافورة في هذه السياسة حداً أصبح معه توافر هذه العمالة عالية التأهيل وفق احتياجات تلك الشركات محليا أحد أهم عوامل الجذب التي تساعد على استقطاب تلك الشركات وتشجيعها على الاستثمار في سنغافورة، أي أن الاستثمار الأجنبي لم يحل مشكلة البطالة فقط, بل أوجد كماً هائلاً من الوظائف عالية المهارة ومرتفعة الدخل للعمالة المحلية.
من ثم فإن سنغافورة كانت لديها رؤية واضحة وأهداف حددت بعناية ودقة متناهية، ثم سعت بدأب وجهد متواصلين لضمان تحققها من خلال الاستثمارات الأجنبية، وهو ما تفتقر إليه تماما سياسات استقطاب الاستثمارات الأجنبية التي نفذتها الهيئة العامة للاستثمار منذ إنشائها. فلا أحد يستطيع من خلال ما نراه على أرض الواقع أن يحدد لنا ما هو بالضبط الذي نسعى إلى تحقيقه من جهود استقطاب الاستثمارات الأجنبية. فكوننا واحدا من كبار بلدان العالم تصديراً لرأس المال يعني أننا لا نعاني شحا في الموارد المالية وإنما نعاني شحا في فرص الاستثمار دفعت تلك الاستثمارات إلى الرحيل إلى الخارج، بالتالي لا يمكن تفسير ما يجري بكونه سعي إلى استقطاب رؤوس الأموال من الخارج. وفتح الباب على مصراعيه للعمالة المخالفة المتستر عليها ليصبحوا مستثمرين أجانب يتمتعون بمميزات لا يحلم بها المستثمر المحلي، يجعل من غير الممكن أن نتصور أن الهدف من استقطاب الاستثمارات الأجنبية تطوير صناعات رائدة ونقل التكنولوجيا، فهذا غير ممكن من خلال هذه النوعية من الاستثمارات رديئة النوع والحجم، فكل ما حققته لنا أن كافأت عاملاً أجنبياً حقق أرباحا من مخالفته أنظمة البلاد فجعلته متستراً على العشرات من أبناء جنسه الذين استقدمهم وأصبحوا ينافسون المواطن في لقمة عيشه. وتصريح محافظ الهيئة العامة للاستثمار حول أن السعودة ليست من بين أهداف الهيئة وأن الأولوية للكفاءة ولن تفرض السعودة على المستثمر الأجنبي، يعني أن الاستثمار الأجنبي لن يكون أيضا سبباً في خلق وظائف عالية الدخل للمواطن, بل لن يكون حتى مسهماً في مجرد تخفيف حدة البطالة. أي أن سياسة استقطاب الاستثمارات الأجنبية في المملكة تفتقر إلى كل ما تميزت به سياسة استقطاب الاستثمارات الأجنبية في سنغافورة، التي مكنتها ـــ على مدى عقود عدة ـــ من تحقيق واحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم، وجعل مواطنيها الآن يتمتعون بأحد أعلى مستويات المعيشة في العالم بعد أن كانت واحدة من أفقر دول العالم. وحيث لا أحد يمكن حتى أن يدعي أن سياسات استقطاب الاستثمار الأجنبي حققت لنا أيا من ذلك، فكيف لنا أن نستغرب غياب أي دعم أو قبول من أفراد المجتمع لدور الهيئة في اقتصادنا الوطني، فأقل ما يمكن أن نقوله عن استراتيجيتها إنها تفتقر إلى الرؤية ووضوح الأهداف بصورة جعلت نتائجها كارثية. الاستثمار الأجنبي لا يمكن أن يكون هدفاً في حد ذاته، ويجب أن يكون وسيلة لتحقيق أهداف استراتيجية أبعد، وعندما يكون الاستثمار الأجنبي هدفا في حد ذاته، فإن الجهة المسؤولة ستعتبر المهمة قد أنجزت بمجرد حدوث ارتفاع في أحجام تلك الاستثمارات، حتى ولو كان هذا الارتفاع مجرد تجميل للأرقام أظهرها أكبر مما هي فعلا. وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي