إلى الشرق .. دُرْ! (2)

شرفنى معالي أخي الدكتور محمد الجاسر محافظ مؤسسة النقد بالكتابة إلي معلقا على مقالة الأسبوع الماضي، رابطا بلغته الإنجليزية البليغة وروحه المرحة بين زيارة ماركو بولو للصين قبل قرون عدة وما جاء في مقالتي. كما هاتفني الصديق محمد المعمر، وهو مصرفي عريق يحمل خبرة 30 عاما، وكان عائدا لتوه من الصين، هاتفني ليؤكد لى أن من يسمع ليس كمن يشاهد، ونصحني زيارة الصين. وقال لي إن الصين تعي جميع مشاكلها وإنها جادة في التغلب عليها، وإنها إذا مضت بهذا المعدل من النمو، فستتفوق على أمريكا في غضون 40 عاما لتصبح الاقتصاد الأول في العالم، كما تغلبت اليوم على اليابان وألمانيا. ورأيه هذا لا يبعد عن رأي البروفيسور روبرت فوجل، أحد الفائزين بنوبل من جامعة شيكاغو، الذي يعتقد أن زيادة عدد العمّال الصينيين ذوي المهارات العالية نتيجة زيادة الإنفاق على التعليم والتدريب، ستحفّز إلى حد كبير معدّل النمو السنوي في الصين طوال جيل كامل، لترفع إجمالي الناتج المحلي إلى مستوى غير مسبوق في التاريخ عندما يبلغ 123 تريليون دولار بحلول عام 2040؛ وهو ما سيجعلها أكبر اقتصاد في العالم بفارق كبير عن البقية!
عندما ننبه إلى أن عصر الهيمنة الغربية عامة والأمريكية خاصة أخذ فعلا في التراجع، يتصور البعض أننا نتحدث عن أمانٍ مبنية على دوافع عاطفية أكثر منها موضوعية، والأمر ليس كذلك قطعا! فهذا التراجع ليس من قبيل التقلبات الاقتصادية الدورية المعتادة، بل هو نتيجة خلل في صلب هيكل الاقتصاد والإطار المنظم له. لكن البعض يصعب عليه تصديق ذلك، ولا بأس فإني أجد لهم العذر، فالأمر سيأخذ منهم وقتا حتى يتحرروا من تأثير وسائل وأدوات التوجيه والسيطرة التي تقع بيد معظم العقول الغربية المؤثرة في العالم اليوم فكريا، وسياسيا، واقتصاديا، وإعلاميا. فهذه الجحافل من العقول الموجهة كان لها تأثير هائل على الخطاب العالمي خلال القرنين المنصرمين.
انظر مثلا إلى ما يصوره معظم الخطاب الغربي من أن انخفاض عملة الصين هو سبب مشاكل الاقتصاد الأمريكي وسبب عجز ميزانه التجاري! بينما الحقيقة هي أن انخفاض عملة الصين ما هو سوى عامل واحد من مجموعة عوامل مكَّنت الصين من هذا التفوق! منها الأجور المتدنّية، والبنى التحتية الجيدة، والأجواء المؤاتية للأعمال، والنقابات المذعنة، واليد العاملة المجتهدة؛ ولهذا حذر فريد زكريا الإعلامي الأمريكي الشهير (وهو من الأصوات العقلانية التي تحظى باحترام واسع) من أن ارتفاعا بسيطا في عملة الصين لن يحل مشاكل أمريكا الاقتصادية؛ فالصين تنتج سلعا كثيرة تقل تكلفتها بنحو 25 في المائة عن لو صُنِّعت في الولايات المتحدة. وعليه فإن زيادة أسعار تلك السلع بنسبة 20 في المائة إذا عدل سعر الصرف لصالح الدولار، لن تجعل السلع الأمريكية تنافسية. بل الأكثر ترجيحا ـــ كما يقول فريد ـــ أنّ هذا الارتفاع سيساعد الاقتصادات الأخرى متدنّية الأجور زيادة صادراتها، مثل فيتنام والهند وبنجلاديش التي تصنع عددا كبيرا من السلع نفسها المصنوعة في الصين.
رفع سعر عملة المنافس لن يحل مشاكل الاقتصاد الأمريكي، فقد جربته أمريكا ومارست ضغوطها مرتين، مرة مع الصين عندما ضغطت عليها لرفع عملتها مقابل الدولار بنسبة 21 في المائة بين عامي 2005 - 2008، ومع ذلك ظلّت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة تسجّل نموا هائلا. وقبلها أرهبت الولايات المتحدة اليابان في عام 1985، كي تزيد قيمة الين الياباني. وأيضا لم تفلح زيادة الين بنحو 50 في المائة في جعل السلع الأمريكية أكثر تنافسية. والحقيقة أنه منذ عام 2002، تراجعت قيمة الدولار الأمريكي بنسبة 23 في المائة في مقابل كل عملات شركائها التجاريين، ومع ذلك لم تزدهر الصادرات الأمريكية، فما زالت أمريكا تستورد من 90 بلدا حول العالم أكثر مما تصدّر. وبالقطع ليس السبب تلاعب تلك البلدان بعملاتها، بل السبب الحقيقي أن الأمريكيين أصبحوا يستهلكون أكثر مما ينتجون ويستوردون أكثر مما يصدرون!
التحدّي الحقيقي الذي ستواجهه الولايات المتحدة من الصين ليس إغراقها بالسلع الرخيصة، بل تحول الصين نحو إنتاج سلع أكثر تطورا وذات جودة عالية، من خلال قيامها بالاستثمار في رأسمالها البشري بالعزم نفسه الذي أظهرته في بناء بنيتها التحتية في العقود الثلاثة الماضية. خلال الـ 12 عاما الماضية، ضاعفت الصين نصيب التعليم من الإنفاق بنحو ثلاث مرات تقريبا كنسبة من إجمالي الناتج المحلي. صعود الصين ليس وليد تلاعب بكين بالعملة أو وليد إعانات حكومية مخفيّة ـــ كما يحلو للمتراجعين ادعاءه ـــ بل إنّه وليد عمل ممنهج من الاستثمارات الاستراتيجية والتفاني في العمل. وسيستمر تدهور الاقتصاد الأمريكي طالما بقي الأمريكان مشغولين في تحميل مشاكل اقتصادهم على الآخرين وتجاهلوا أصل الداء. وللحديث صلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي