هيئة الاستثمار .. أين الخلل؟ (3 من 3)
استعرضت في المقالين السابقين واقع سياسات استقطاب الاستثمارات الأجنبية التي تنفذها الهيئة العامة للاستثمار, حيث بدا جليا أنها تفتقر إلى رؤية واضحة لها أهداف محددة، على عكس ما عليه الحال في الدول التي حققت اقتصاداتها مكاسب هائلة من جهود استقطاب الاستثمارات الأجنبية، كما أن نموذج الأعمال المطبق في المدن الاقتصادية غير مناسب، بصورة تجعل من المستحيل نجاحها دون إعادة صياغة هذا النموذج بصورة جذرية. وحيث إنني أتساءل في عنوان هذه المقالات أين الخلل؟، فسأجيب عن تساؤلي بالقول إن هناك مصدرين أساسيين لذلك، أولهما خلل في الوضع التنظيمي للهيئة، والآخر خلل في هيكلية التخطيط الاقتصادي في المملكة بشكل عام. فإحدى القواعد الأساسية للتنظيم الإداري أنه عندما يكون هناك جهاز حكومي يتمتع بصلاحيات واسعة واستقلالية عن الجهاز التنفيذي للدولة، فإنه يلزم أن يدار هذا الجهاز من خلال مجلس إدارة يرأسه مسؤول كبير في الدولة، أي من خارج الجهاز، ما يعطي الدولة إشرافا مباشرا ورقابة آنية على العمل التنفيذي في هذا الجهاز. فدون ذلك، وفي ظل ما يتمتع به الجهاز من صلاحيات استثنائية ومرونة مالية وإدارية واسعة، يمكن أن تُخلق بيئة تساعد على حدوث تجاوزات واسعة، أو سوء استخدام للسلطة. إلا أن الملاحظ، وعلى خلاف معظم الهيئات العامة في المملكة، أن محافظ الهيئة العامة للاستثمار هو نفسه رئيس مجلس إدارة الهيئة، ما همش مجلس الإدارة وأضعف من دوره الرقابي والإشرافي، إلى حد أن سليمان المنديل عضو مجلس إدارة الهيئة سابقا ذكر في مقال له في صحيفة «الوطن» قبل أسابيع «أنه لم يكن لمجلس الإدارة علم بما كان يجري حول مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، حتى جاء فاكس لكل عضو، الساعة الخامسة مساء، بدعوة للحضور في اليوم التالي، للمشاركة في حفل تدشين ماكيت المشروع». وهو أمر لا يمكن تصور حدوثه مطلقا لو لم يكن محافظ الهيئة هو نفسه رئيس مجلس الإدارة، ما أتاح مجالاً واسعاً للفريق التنفيذي في الهيئة للتفرد بالقرار وتجاهل مجلس الإدارة. من ثم فإن هناك ضرورة وحاجة ماسة إلى تصحيح الوضع التنظيمي للهيئة وجعله متسقا مع ما تملكه الهيئة من صلاحيات واستقلالية، وذلك من خلال فصل رئاسة الجهاز التنفيذي عن رئاسة مجلس الإدارة، ما يحقق الرقابة والإشراف المفترضين على عمل الهيئة من قبل الدولة.
من جانب آخر، فإن أنشطة التخطيط الاقتصادي في المملكة تشارك فيها جهات عديدة، فهناك مثلا وزارة الاقتصاد والتخطيط، ووزارة المالية التي فيها وكالة للشؤون الاقتصادية ويرتبط بها عدد من المؤسسات المهمة كمؤسسة النقد وصندوق الاستثمارات العامة وصناديق التنمية المختلفة، وهناك الهيئة العامة للاستثمار التي تعنى بتطوير البيئة الاستثمارية, خاصة فيما يعلق باجتذاب الاستثمارات الأجنبية, كما ترتبط بها مشروعات المدن الاقتصادية، ووزارة البترول والثروة المعدنية مخولة بوضع وتنفيذ السياسات الخاصة بالطاقة الإنتاجية ومستوى الإنتاج النفطي وقرارات الاستثمار المعدني، ووزارة الصناعة والتجارة معنية بكل ما يتعلق بالتراخيص الصناعية وتأسيس الشركات وترتبط بها هيئة المدن الصناعية، وهناك الهيئة الملكية للجبيل وينبع، إضافة إلى جهات حكومية أخرى عديدة معنية بشكل أو بآخر بعملية التخطيط الاقتصادي. وهذه الجهات تعمل في الغالب كجزر معزولة بعضها عن بعض, ما حد من إمكانية تكامل جهودها، في ظل عدم وجود مظلة شاملة للتخطيط الاقتصادي في المملكة، كما هو الحال في الدول التي حققت نجاحاً مبهراً في هذا الشأن كسنغافورة على سبيل المثال. فلا يكفي مثلا أن تقوم هيئة الاستثمار بتوقيع مذكرة تفاهم مع هذا الجهاز أو ذاك، إن كانت تلك الاتفاقيات ستكون حبيسة الأدراج، بل قد تكون الهيئة هي أول من يتجاهلها، ويدل على غياب مثل هذا التكامل والتنسيق، قول أحد كبار مسؤولي وزارة الاقتصاد والتخطيط في جلسة استماع له في مجلس الشورى «إن الوزارة لم يكن لديها علم بإنشاء المدن الاقتصادية، إلا بعد نشر خبر ذلك في الصحف المحلية».
من ثم, فإن التخطيط الاقتصادي في المملكة يعاني تعدد الجهات المسؤولة عنه, وبالتالي عدم وجود جهاز واحد منوط به هذه المهمة، والمشكلة أننا عندما رغبنا في حل هذه الإشكالية التي يواجهها التخطيط الاقتصادي في المملكة قمنا بإنشاء المجلس الاقتصادي الأعلى, مفترضين أنه بالهيكلية التي وضعت له سيقوم بدور مشابه للدور الذي يقوم به جهاز التخطيط الاقتصادي في سنغافورة المسمى (Economic Development Board (EDB، إلا أنه قد يكون حدث خطأ في الترجمة، حيث ترجمت كلمة Board في اسم هذا الجهاز إلى «مجلس»، في حين أن هذه الكلمة تعني في سنغافورة شيئا مختلفا تماما هو Statutory board، الذي يقصد به هيئة عامة مستقلة عن الجهاز الحكومي هيكلها الإداري من التكنوقراطيين الذين لا يخضعون للخدمة المدنية، تتمتع بصلاحيات واسعة لتنفيذ وظائف تشغيلية محددة، تدار من خلال مجلس إدارة يرأسه مسؤول كبير في الدولة، ويتشكل مجلس إدارتها من عدد من مسؤولي الأجهزة الحكومية ذات العلاقة ومن ممثلين عن قطاع الأعمال. ومن الواضح أن هذه الهيكلية لا تنطبق مطلقا على المجلس الاقتصادي الأعلى في المملكة، الذي لا يعدو أن يكون لجنة تحضيرية لمجلس الوزراء، بأمانة عامة يعمل بها عدد محدود من الموظفين، ولا يتمتع بأي استقلالية ولا يقوم بأي مهام تخطيطية، ويعتمد تشكيله بشكل كامل تقريبا على مسؤولي الأجهزة التنفيذية المعنية بالشأن الاقتصادي وتعقد اجتماعاته على فترات متباعدة نسبيا. ما يعني أننا ما زلنا في حاجة ماسة إلى إعادة هيكلة منظومة التخطيط الاقتصادي في المملكة، من خلال دمج أنشطة التخطيط الاقتصادي في جهاز واحد بصلاحيات واسعة ومستقل عن الجهاز التنفيذي للدولة ليتولى صياغة ومتابعة تنفيذ كامل عملية التخطيط الاقتصادي في المملكة، ودون ذلك سنظل نعاني المبادرات الارتجالية غير الناضجة التي تخلق واقعاً يصعب إصلاحه.