أمريكا.. البحث عن الطريق
شكَّل الأسبوع الماضي نقطة تحول مهمة في السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة، مع أن التأثير الفعلي للتغييرات الراهنة سيحتاج إلى وقت ليتحدد. وقد أسفرت الانتخابات النصفية للكونجرس عن فوز مدوٍ للجمهوريين، لكنها أيضا تركت موازنة القوة في الكيان التشريعي منقسما مع بقاء مجلس الشيوخ في أيدي الديمقراطيين. ورغم ترحيب الأسواق بدعم الجمهوريين اللفظي للاندماج المالي، إلا أنه ليس من الواضح مدى إمكانية عمل الجانبين معا وبفاعلية. وبقيت الفترة المطولة من الجمود كاحتمال زعزعة في وقت أزمة كبرى. على النقيض من ذلك، سعى بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى تحسين الأجواء من خلال إطلاق موجة جديدة من التسهيلات الكمية. فالخطوات أبعد من الـ 600 مليار دولار بقيت موضع شك، إلا أن تأثير أسعار الأصول على المدى القريب قد يكون إيجابيا حتى وإن دفع الدولار ثمن السياسة المتخلخلة جدا.
زلزال سياسي: حتى وإن عكست الانتخابات النصفية التاريخية فوز الجمهوريين في 1994، إلا أن ضخامة التغيير كانت أعظم مع التوقعات بإمكانية اكتساب نحو 60 مقعدا، هو أعظم شيء أمكن تحقيقه منذ انهيار 1948. وفي حين سيبقى مجلس الشيوخ في أيدي الديمقراطيين، سيكون للجمهوريين الآن أصوات كافية لتعطيل ـــ وربما نسف ـــ التشريعات الجديدة. وتعكس هذه النتائج إحباط الناخبين من إدارة أوباما، خصوصا لعدم إحراز تقدم في تحقيق بوادر انتعاش اقتصادي مستدام. والمشكلة، هي أن أسباب الانتصار، وقيود ضخامته، كانت جزئيا بسبب تطرف الحزب الجمهوري الزائد مع ما يسمى بحركة حزب الشاي. ونتيجة لذلك، لن يكون الكونجرس الجديد منقسما فحسب، بل ربما أكثر تناقضا من أي وقت مضى.
تغيير الاتجاه: يبدو من المؤكد إعادة تركيز الأولويات السياسية بعد هذا الزلزال السياسي. وادعى 80 في المائة من الناخبين أن دافعهم الأساسي هو المخاوف بشأن الاقتصاد. وقد أعرب الرئيس أوباما عن اعترافه بتغير المزاج الوطني ووعد بالتعاون مع غالبة المجلس الجديدة من الجمهوريين. ومع ذلك، فالاختلاف الإيديولوجي الاستثنائي قد يخلق فترة فعالة من الجمود لا يمكن تجنبها.
وقد تعهد الجمهوريون عموما بالعمل من أجل الاندماج المالي والحكومة المصغرة. ومن المحتمل أن يوفر سقف الدَّين الاتحادي أرضا للمعركة على المدى القريب، فهو المسؤول عن تحديد سلطة الاقتراض للخزانة الأمريكية. ويبدو أن هذا السقف سيتم كسره قريبا؛ لذلك فسيأتي في إطار مراجعة الكونجرس. يعارض الجمهوريون رفع المستوى الحالي. والمجال الآخر للخلاف هو خفض الضرائب في عهد بوش، الذي سينتهي هذا العام. وفي حين أنه من المحتمل تجديدها على نطاق أوسع، شكك أوباما في وقت سابق حول ضرورة استمرار التخفيض لذوي الدخل المرتفع، إلا أنه أبدى في وقت لاحق مرونة كبيرة بشأن هذه المسألة. ومع ذلك، فهناك احتمال كبير لاتخاذ إجراءات مالية تحفيزية إضافية.
وفي حين أن الجانبين قد يبحثان عن أرض مشتركة على الأقل لبعض القضايا الأساسية، ومن المرجح أن يسعى الجمهوريون إلى تنازلات حول القضايا البارزة، وهو الأمر الذي قد يضع علامة استفهام على عناصر من برنامج أوباما. ومن بين أمور أخرى، هدد الجمهوريون بتقويض تنفيذ إصلاح الرعاية الصحية إلى جانب بعض التدابير التحفيزية التي تتبناها الإدارة. فالملجأ المبكر للفيتو الرئاسي قد يعكر المزاج بسرعة ويؤدي إلى مواجهة مفتوحة، كما حدث في منتصف التسعينيات قبل أن يغير الجانبان اتجاهيهما في نهاية المطاف. والأزمة الاقتصادية الحالية تجعل مثل هذا التأخير أكثر خطورة.
بنك الاحتياطي الفيدرالي والمرحلة الثانية من التسهيل الكمي: مع التغيرات الجذرية لتوقعات السياسة المالية، عرض البنك الفيدرالي الاستمرار في سياسته النقدية، ويبرَّر هذا الفعل جزئيا بعدم وجود مخاطر تضخمية هائلة. وقد اعتبر المستوى الحالي أدنى من منظور وصايته المزدوجة. وتماشيا مع توقعات السوق، أعلنت لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية يوم الأربعاء حملة من التسهيلات الكمية بقيمة 600 مليار دولار، ستكتمل بنهاية الربع الثاني من 2011. وقد ذكر بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك أنه يسعى لشراء أوراق مالية ذات آجال استحقاق متوسطها 5-6 سنوات، بينما خفف مؤقتا من سقف الشراء المسموح به لكل إصدار، الذي كان في السابق عند 35 في المائة. وسيستمر البنك أيضا بإعادة استثمار التسديد المبكر من محفظة أوراقه المالية المدعومة بالقروض العقارية. فالتسهيلات الكمية المستمرة تبرز مدى الإحباط من بطء وتيرة الانتعاش الاقتصادي. ورغم استقرار معدلات البطالة، إلا أنها بقيت على مقربة من 10 في المائة. وقد انخفض إنفاق المستهلكين وذلك مع سعي الأمريكيين لتصحيح موازناتهم من خلال تقليص الديون عقب الانخفاض الهائل في محافظ أصولهم، ولا سيما منازلهم. ومع ذلك، فالمسار المستقبلي الدقيق للتسهيلات الكمية لا زال محل شك كبير. وقد توقع بعض المعلقين برنامجا أكبر وأكثر انفتاحا، قد يبلغ إجماليه 1.5مليار دولار أو حتى 4.0 مليار دولار. ومع ذلك، فقد كررت لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية استعدادها لمراجعة وتعديل البرنامج حسب الحاجة للدعم الأقصى لاستقرار سعر العمالة بعد نهاية الربع الثاني من 2011. وقد شكل هذا عنصرا مهما من عدم اليقين في مواجهة الاندماج المالي المتوقع بشكل كبير والتقليص الحالي من قبل أفراد الأسرة.
ما هي آثار المرحلة الثانية من التسهيلات الكمية؟ من المحتمل أن يكون لخطوات البنك الفيدرالي تأثيرات نهمة على السوق في وقت كرر فيه بنك إنجلترا والبنك المركزي الأوروبي موقفهما الحالي من السياسة النقدية، وهو الأمر الذي ساعد في إعادة سعر صرف الدولار إلى مستوياته في 2008. ففترة ضعف الدولار ستخلق بدورها منظورا انتقاميا، حيث إن التسهيلات الكمية قد تتحول بسهولة إلى إجراءات حمائية بحلة جديدة. ومن المفارقات، أن يخاطر بإدامة بعض الاختلالات في الاقتصاد العالمي. وتساعد التسهيلات الكمية في دعم الاقتصادات الأوروبية الأضعف عن طريق دعم قيمة اليورو وخلق السيولة في بحث عن العائدات المرتفعة التي تقدمها الملاءة المالية المتداعية من السيادات الأوروبية الضعيفة. علاوة على ذلك، ففقاعة الأسواق الناشئة تخاطر بتقويض إحدى قصص النجاح النسبية القليلة للأزمة. وفي الوقت ذاته، ستعاني الاقتصادات الكبرى الأخرى ذات العملات العائمة إذا اغتال ضعف الدولار انتعاشاتها المدعومة بالصادرات.
فالتسهيلات الكمية الإضافية كانت متوقعة بشكل كبير من قبل الأسواق وقد كانت إحدى دعائم التحسن الحالي في معنويات السوق. وبوجه عام، قد يتوقع من التسهيلات الكمية أن تخفض أسعار الأصول منخفضة المخاطر وتجبر المستثمرين على البحث عن عوائد أعلى خلال المواقف الأكثر خطورة. وبالمثل، فانخفاض تكلفة الاقتراض تعتبر أخبارا سيئة للكفاءة الاقتصادية. وقد أعطت البنوك بعض الحوافز لرفع منحنى الخطر، إلا أنه أيضا سمح للمنظمات غير الفعالة بالبقاء، حيث أصبحت تكلفة اقتراضها أكثر سهولة. فتصرفات بنك الاحتياطي الفيدرالي قد شكلت خطرا بسبب طبيعتها المضادة للتقلبات الدورية في وقت الأزمة الهيكلية الكبرى. وإذا استمر تأخير الحلول الهيكلية، فلن ينفع أي مسكن، والدليل الياباني خير مثال لذلك. وفي غياب الإصلاحات الهيكلية الفعلية، فيمكن لجهود البنك أن تنتج بسهولة بعض العقبات ومن ثم الراحة. ومن بين أمور أخرى، فإن ارتفاع أسعار السلع الناتج عن المرحلة الثانية للتسهيلات الكمية يمكن أن يرفع بسهولة تكلفة المنتجات ويخفف من قوة الانتعاش الاقتصادي. فتساهل البنك الفيدرالي يجب ألا يكون ذريعة للتقاعس عن العمل من قبل السلطة التنفيذية.