الأمة المعطلة

كانت مشاهد جموع الحجيج في وقفتهم بعرفات ثم نفرتهم لمزدلفة، ثم رمي الجمرات, وتقاطرهم لبيت الله الحرام لأداء طوافي الإفاضة والوداع، مشاهد مهيبة لجموع بشرية تشكل فسيفساء تمثل كل الأعراق والأجناس والطبقات والمستويات الثقافية والحضارية، هذه المشاهد تعكس حقيقة أن الإسلام هو دين له صفة عالمية وإنسانية، وأن هذا التجمع البشري الضخم والمهول يؤكد قوة هذا الدين الكامنة في قدرته الإيمانية على توحيد كل هذه الأفئدة من شتى الأعراق والثقافات في عقيدة إيمانية واحدة، وجعل أفئدتهم جميعا تهفو إلى هذه البقعة المباركة والمقدسة.
الحج يبرز حقيقة أن هناك أمة إسلامية مكونها الأساسي هو عقيدة إيمانية واحدة جعلت كل فرد منها يعتبر أداء هذه الفريضة حلما وهدفا من أهداف حياته الأولوية، يتساوى في ذلك الفقير المعدم من دولة فقيرة والذي قضى سنين عديدة يجمع تكاليف الحج، والثري المنعَّم من دولة غنية ومتطورة، فيلتقون معا على بساط واحد لا فرق فيه بين الغني والفقير، ليشكلوا معا صورة مصغرة لهذه الأمة.
إلا أن الوجه الآخر لهذه الحقيقة هو أنه ليس لهذه الأمة وجود على أرض الواقع، لماذا ليس لها وجود في هذا العالم؟ لأنها لم تستطع ترجمة قوتها الإيمانية إلى منظومة سياسية واقتصادية وثقافية تسهم من خلالها مع الأمم الأخرى كأمة فاعلة ومؤثرة في عالم اليوم، خصوصا وهي تحمل رسالة مطلوب منها أداؤها، وهو ما يعكس خيبة الأمل في واقع حال هذه الأمة الغائبة والمغيَّبة عن الفعل والدور المفترض أن تقوم به وتؤديه، فهي أمة ليس لها وجود على خريطة العالم السياسي والاقتصادي والحضاري، فضلا على أن تكون قادرة على حماية سمعتها والدفاع عن قيمها الدينية الصحيحة الإيمانية والأخلاقية، حتى أصبحت توصف في العالم اليوم بأنها أمة الإرهاب ودينها دين إرهاب، فقد واجهت خلال العقد الماضي على وجه التحديد، حملة شرسة وواسعة حملتها مسؤولية المد الإرهابي الذي ضرب العالم بما فيه بلدان إسلامية، فأصبح المسلم إرهابيا حتى يثبت العكس.
بالرغم من روعة مشاهد الحج وهيبة تلك الحشود المهولة إلا أن ما يشاهد ليس أكثر من الزبد الذي حذر منه رسولنا ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ فهذه المشاهد وهذه الحشود لا تعكس حقيقة أمة إسلامية حقيقية، فهي ليست أكثر من كم وليس نوعا، فلا يمكن أن نتحدث عن أمة ما لم توجد لها مؤسسات تصوغ مواقف وسياسات وبرامج ذات بعد إسلامي سياسي واقتصادي وحضاري، ورابطة تستلهم تجارب أخرى لتجمعات إقليمية كالاتحاد الأوروبي، ولا يعني ذلك عزل أو انعزال الدول الإسلامية عن محيطها الإقليمي، بل تتفاعل معه وتفعل فيه، ولكن ضمن هوية إسلامية نتمنى أن تستلهم دعوة الملك فيصل ـــ رحمه الله ـــ للتضامن الإسلامي بعد تطويرها ليكون تضامنا يتوافق مع متطلبات النظام العالمي القائم اليوم بعد زوال نظام القطبين ببعده الأيديولوجي، وهذا التضامن لا بد أن يبرز في موقف إسلامي من قضايا إسلامية صرفة على أقل تقدير، فكيف يمكن لنا أن نتحدث عن أمة إسلامية وهي تقف هذا الموقف الباهت وغير الفاعل تجاه قضية المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسولنا ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ وهو يحتل ويُهوَّد بل ويهدد وجوده بحفريات اليهود على سبيل المثال..؟، ليس المطلوب ردة فعل شعبية يدفعها حماس ديني مؤقت ثم يذهب أدراج الرياح كما حدث خلال العدوان على غزة، بل المطلوب مواقف سياسية رسمية تمثل عالما إسلاميا قادرا على الدفاع عن مقدساته.
من مجمل ذلك يمكن القول إن حال المسلمين اليوم تنطبق عليه الآية القرآنية الكريمة ''إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم'' صدق الله العظيم، فحالنا لن يتغير ما لم نغير من فعلنا ونؤسس لمنظومة متكاملة تضع العالم الإسلامي على خريطة العالم، وتفعيل منظماته المختلفة بتحويلها من مجرد هيئات شكلية لمكونات تعبر عن مصالح الأمة، فالدعاء بلا عمل لا قيمة له، فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة كما قال الفاروق ـــ رضي الله عنه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي