أسيا.. هل ستقود العالم في المستقبل ؟

لقد بات المستقبل يشغل بال المفكرين والمثقفين والباحثين, فالعالم اليوم يعيش في مرحلة تحول في الميادين السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية, والأزمة الاقتصادية العالمية قد زادت من هاجس القلق عند الدول عن مستقبل النظام العالمي بعد الأزمة. فأمريكا القوية عسكريا وسياسيا باتت تترنح اقتصاديا بالشكل الذي قد يهدد مستقبلها كدولة عظمى, فهي اليوم دولة مثقلة بالديون وتعاني من بطالة لم تشهدها منذ عقود طويلة. فهناك خوف حقيقي وان لم يجرأ احد على الإفصاح عنه بأن ديون أمريكا المتصاعدة قد يوصلها يوما إلى مرحلة الانهيار والإعلان عن عجزها عن تسديد هذه الديون وعندها قد تبدأ مرحلة الانحدار الحقيقي في موقع أمريكا وتقدم دول أخرى لأخذ زمام المبادرة في قيادة العالم. صحيح أن أمريكا لن تتخلى بسهولة عن قيادة العالم وان عندها من مكامن القوة ما يؤهلها للحفاظ على هذه المكانة الدولية, فاقتصادها يمتاز بالحيوية والمرونة التي تجعله قادرا على أن ينتشل نفسه من الأزمات الاقتصادية بشكل أسرع من الدول الأخرى, ولا ننسى القاعدة العلمية التي تستند عليها أمريكا فهي لا زالت الأكثر إنتاجا للعلم في العالم وان من يمسك بناصية العلم سيكون هو الأغنى وهو الأقوى وهو الأكثر تأثيرا على العالم في المستقبل. ولكن ما يؤخذ على أمريكا هو ما يؤخذ على كل من عنده فائض من القوة, فالإنسان الغني والذي عنده فائض من الثروة فأنه أحوج من غيره إلى الأخلاق القوية لأن هذا الفائض من المال بدون أخلاق سيكون سببا في انزلاقه في الفساد والانحراف وربما حتى الانهيار تحت وطأة هذه الأموال, وحتى الفائض من العلم بلا أخلاق قد يؤدي بصاحبه إلى الخسران, والدول أيضا تخضع لهذا القانون. فأمريكا إن لم ترشد من سياستها العالمية وتتخلى عن سياسة الانفراد في توجيه العالم في اطر إيديولوجية التي تنتجها جماعات ضغط لها أجندات دينية أو عنصرية لا تخدم المصالح الأمريكية العليا, فأن السياسة الغير رشيدة ستفعل فعلها وستجر معها في الانحدار الاقتصاد ومكانة أمريكا العالمية. وأما أوربا والتي هي تتطلع لئن تحل محل أمريكا في قيادة العالم فأنها تفتقد إلى العناصر التي تؤهلها لمثل هذا الدور, فالوحدة الأوربية التي تراهن عليها أوربا في المرور إلى الزعامة هي اليوم في موضع شك, ففي الأمس كانت مشكلة ديون اليونان واليوم مشكلة ايرلندا وغدا اسبانيا والبرتغال. فهل ستستطيع ألمانيا في إن تواصل دورها في إنقاذ أوربا أم أنها ستتخلى عن هذا الدور وينفرط عقد الاتحاد الأوربي لتعود أوربا إلى قارة كبقية القارات. فألمانيا بأوربا أو بغير أوربا سيكون لها حضور قوي وموقع متميز في منظومة قيادة العالم في المستقبل.
يبقى السؤال المهم وهو عن دور أسيا في المستقبل في ظل تنامي قوة كل من الصين والهند إلى جانب اليابان. فأسيا هي اكبر قارات العالم مساحة وأكثرها اكتظاظا بالسكان وأغناها في مصادر الطاقة وأشدها تنوعا في التضاريس والظروف المناخية. وإذا أضفنا إلى كل ذلك العمق التاريخي والحضاري فأن أسيا تملك كل ما يؤهلها ليسلم لها العالم زمام القيادة في المستقبل. إن النهضة الحديثة والتي هي بحق غربية في أسسها الفكرية وأنظمتها الإدارية وأطرها التنظيمية السياسية والاجتماعية جعلت الكثير يسلم بأنه لا يمكن لأي مجتمع مهما كان تأريخه ومحصلته الثقافية والفكرية أن يكون مجتمعا حديثا ما لم يأخذ شكل ونمط المجتمع الغربي, لا بل صار هناك خوف عند الكثير من المثقفين من أن بروز نماذج لدول جديدة قادرة على أن تحقق تجارب تنموية ناجحة قد يهدد بما جاءت به هذه التجربة الغربية من قيم في الإدارة والحكم والتنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي, فالتجربة الغربية عند هؤلاء لم تكن فقط مجرد تطور علمي وتقني ومادي بل أن هذه الأمور ما تحققت إلا بعدما انتظمت وترسخت القيم الحقوقية والسياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الغربي. فالعالم يتطلع إلى المستقبل وهو يأمل بأن تقدم الصين والهند لقيادة العالم يجب أن يصاحبه إضافة قيم إنسانية جديدة للتجربة الغربية لا أن يكون هناك شطب وإلغاء لما توصلت إليه وأنتجته التجربة الغربية من قيم واطر تنظيمية أثبتت التجربة صلاحيتها في الارتقاء بالمجتمع الإنساني. صحيح إننا نحن المجتمعات الإسلامية والعربية بالأخص قد وصلت ألينا هذه القيم وانتقلت ألينا هذه التجربة وهي محمولة على عربة الاستعمار وصاحب انتقالها ألينا الكثير من الظلم السياسي والعسكري إلا أنها تبقى قيم إنسانية أنتجتها عقول إنسانية تنشد الخير والنفع لمجتمعاتها وبالتالي ما ينتجه الإنسان كانسان يبقى نافعا حتى وان كانت هناك حاجة لمراعاة الفوارق الاجتماعية والثقافية بين الشعوب. فالتغير والتبدل في موازين القوى هو من الأمور الطبيعية وهو من الأمور التي لا يمكن الوقوف في وجهها أو تجنبها ولكن الخوف من أن يصاحب هذا التغيير هدم لما سبق وبالأخص في الجانب ألقيمي, ولكن ما يراهن عليه اليوم هو مستوى التحضر الذي وصلت إليه شعوب العالم وما هو موجود من إمكانات كبيرة للتواصل بين الشعوب, فالشعوب بمنظماتها ومؤسساتها المدنية وليست الحكومية هي القادرة على أن تضمن للعالم في أن يكون التغيير سهلا وسلسا وان لا يصاحبه عنف وحروب كما كان يحدث في الماضي.
فالصين تسجل كل يوم موقعا متقدما في مختلف المجالات, ولعل الغرب لم يستمع إلى نصيحة نابليون عندما قال دعوا الصين نائمة لأنها عندما تستيقظ فسوف ترج العالم, ففعلا ها هي الصين ترج العالم وهي اليوم تزيح اليابان كما زاحت من قبل ألمانيا وبريطانيا في طريق تقدمها لتحتل وبجدارة موقع ثاني اكبر اقتصاد في العالم, لا بل أن أمريكا اليوم تسترضيها وتتودد لها لتعدل من قيمة عملتها, فهي اكبر دولة دائنة لأمريكا واكبر مستثمر أجنبي فيها واكبر دولة مصدرة لها, يكفي أن سلسلة محلات واحدة في أمريكا تستورد من الصين لوحدها أكثر بكثير ما تستورده مجموع دول بأكملها.
أما الهند, فزيارة الرئيس اوباما الأخيرة إلى الهند وإعلانه عن العلاقة الإستراتيجية بين البلدين هو إقرار بالموقع القادم للهند كدولة عظمى. فالهند بعدد سكانها الذي يفوق البليون تتقدم بسرعة وبالأخص في الصناعات العقلية وهذا ما سيدفع بها إلى الصدارة عالميا, فالعقل الهندي اليوم يراهن عليه في إنتاج ما يحتاج إليه العالم من برامج وأنظمة لتشغيل ماكينة اكبر الشركات العالمية. فالهند عندها الشباب المتحمس للخروج من بيئة الفقر والتخلف والمرض وليس عنده سلاح اقوي وأمضى من سلاح العقل والتفكير, يكفي أن للهند اليوم في أمريكا لوحدها أكثر من ستين إلف طالب هندي في الجامعات الأمريكية يعملون ويشاركون في كافة أنواع البحوث العلمية وقد يعود منهم الكثير إلى الهند ليؤسسوا هناك شركاتهم ومشاريعهم البحثية والتجارية.
قد تبقى أمريكا وأوربا في الصدارة وقد تبقى في موقع الزعامة في قيادة العالم ولكن ما هو مؤكد أن هناك من سيشاركها في هذه الزعامة وستكون من بينها على الأقل ثلاث دول أسيوية وهي الصين والهند واليابان, فالصين عضو دائم في مجلس الأمن والهند واليابان مرشحتان قويتان لهذه العضوية. ولكن السؤال كيف سيكون العالم تشارك في قيادته الصين والهند واليابان, فالعالم الغربي كان ينظر إلى الشرق على انه يفتقد البيئة المناسبة للنهوض اقتصاديا وعلميا وذلك بسبب انغماس هذا الجزء من العالم في الجوانب الروحية والتي يراها معيقة ومعرقلة لعملية النهوض العلمي والمادي, فلم تكفي تجربة اليابان لإثبات خطأ هذه المقولة فهل ستثبت الصين والهند وغيرها من الدول الأسيوية بأن التنمية تكون أكثر إنسانية وأكثر رشدا وأكثر ديمومة عندما يكون للجوانب الإنسانية حضورا قويا ودورا فاعلا فيها. فهل سيشهد العالم بقيادة أسيا تنمية إنسانية وهل سيكون لنا نحن العرب والمسلمين بما يحويه ديننا من مخزون روحي عظيم دورا في صناعة هذا المستقبل......؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي