ما قبل «ساهر» وما بعده
بعد أشهر من تطبيق نظام ''ساهر'' المروري الذي صاحبته دعاية ضخمة على أنه الساحر ''ساهر'', الذي سيضبط سلوكياتنا المرورية المنفلتة، ويسهم ـــ بعد الله ـــ في حفظ أرواحنا من أن تزهق، وممتلكاتنا من أن تدمر، بسبب متهور في سياقته، وعابث بكل أنظمة المرور، وأنه بفضله ستصبح قيادتنا لسياراتنا في شوارعنا وطرقنا السريعة عبارة عن نزهة آمنة وليست مغامرة خطرة، بعد تجربة هذه الأشهر مع ساهرنا العزيز، اكتشفنا أن الذي اعتقدناه جبلا لم يتمخض إلا فأرا، فقد تقلصت مميزاته التي قيل إنها لا تعد ولا تحصى، إلى ميزة واحدة وحيدة فقط وهي ضبط ما يتيسر له من مخالفات السرعة وإرسال رسالة جوال بقيمتها، والمطالبة بسرعة تسديدها حتى لا تتضاعف، أما غير ذلك فلا شيء تغير في شوارعنا مع نظام ''ساهر''، فالتجاوزات اللانظامية والتعديات المرورية استمرت كما هي بما في ذلك مخالفة السرعة، فالمسرعون حفظوا مواقع لاقطات ''ساهر'' الإليكترونية، وما إن يتجاوزوها حتى يطلقوا العنان لسياراتهم بسرعة أعلى وتهور أفظع، ومن يريد أن يتأكد ليتابع أشكال وألوان المخالفات المرورية وعلى رأسها السرعة المخيفة في طريق المطارـــــ المدينة في جدة.
هذه النتيجة المخيبة للآمال تعني أن هذا النظام المروري الإليكتروني وبتكلفته العالية التي تجاوزت ملياري ريال، محدود الفاعلية بقصره فقط على ضبط السرعة قياسا بتكلفته العالية، وكأن هدف القائمين عليه الأول وهمهم الأكبر هو استرجاع قيمته في أقصر مدة زمنية ممكنة من خلال تسجيل أكبر كم من مخالفات السرعة فقط لا غير، مع أن المخالفات التي تشتكي منها شوارعنا وطرقنا ليست السرعة وحدها، مع أنها تقف على رأسها كما وخطرا، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن إن كان هذا النظام الإليكتروني الباهظ القيمة المادية لا يستطيع إلا ضبط مخالفة واحدة من عشرات المخالفات الأخرى؟، فماذا عن بقية المخالفات التي تشوه مظهرنا الحضاري.. من يضبطها؟ ومن يعاقب عليها؟
ما نعانيه في شوارعنا ليس فقط مخالفة السرعة، بل أصناف عديدة لا تقل خطورة عنها، فهناك مثلا التنقل بين الحارات والمسارات يمنة ويسرة بتهور وسرعة، وهناك هذا التصارع على المرور عند الإشارات ومداخل ومخارج الطرق ممن يأتي من خارج المسار، فيتسبب في الزحام وهو يقدم على أخذ حق غيره في المرور، وهناك تعطيل حركة السير بالوقوف وسط الطريق، أو الانشغال بمكالمة هاتفية فيسير ببطء شديد، وهذه مخالفة جديدة دخلت قاموس المخالفات المرورية، وقد تتسبب في وقوع الحوادث، وهناك من لا يزال يأتي من أقصى اليمين للانعطاف يسارا والعكس، وتخطى خط المشاة وقطع الإشارة وعكس الطريق، وجل هذه المخالفات تجرى أحيانا تحت بصر رجل المرور الذي لا يتحرك إلا نادرا وبدافع فردى وشخصي أكثر منه التزام بتطبيق نظام، كل هذه المخالفات ما زالت تمارس وكأنها القاعدة، وعلى الرغم من تطبيق نظام ''ساهر'' الذي زالت هيبته بعد أن تكشف أنه محدود القدرات وليس كما قيل قبل تطبيقه إنه يلقط المخالفات لقطا، فهل هذه قدرات ''ساهر''، وأن الدعاية التي صاحبته كان مبالغا فيها..؟، أم أنه لم يعمل بكامل طاقته بعد..؟
هناك ملاحظتان على ''ساهر''، الأولى أن طريقة احتساب غرامة السرعة لم تعد رادعة للبعض ممن هو مستعد لتحملها مقابل إشباع نزوته في السرعة، خصوصا أنها ليست لها تبعات، فالمخالفة الأولى كالمخالفة العاشرة ديتها واحدة، فلو أن تكرار المخالفة تترتب عليه عقوبات أخرى، لكان للعقوبة أثر يجعل المخالف لا يتهاون معها ويستسهلها، والثانية أنه لا يغطي إلا مساحة محدودة فقط، وهنا يبرز دور العنصر البشرى المكمل للمراقبة الإليكترونية، خصوصا في ضبط وتتبع المخالفات التي ليست من ''اختصاصات'' نظام ''ساهر''.
المحصلة من ذلك كله هو أن نصل إلى مستوى من الانضباط المروري كجزء من متطلبات العالم الأول الذي نأمل في أن نكون منه أو قريبين، وهذا لن يكون إلا باختفاء السلوكيات المرورية المتخلفة وغير الحضارية من شوارعنا.