الاقتصاد الإسلامي .. إصلاح الذات أولا

عقدت في محافظة جدة الأسبوع الماضي ندوة حول الاستثمار الإسلامي تناول المتحدثون فيها بالنقاش عددا من الموضوعات المتعلقة بالاقتصاد والاستثمار والصيرفة وإدارة الأصول من منظور إسلامي. وكان من بين المتحدثين جون ساندويك الذي يقدم نفسه على أنه أحد كبار المهتمين والداعمين لمبادئ الاقتصاد الإسلامي في الوسط الاقتصادي الغربي المشبع بمبادئ الاقتصاد الرأسمالي التقليدي. حديث ساندويك كان حديثا مميزا بحق، أبرز فيه مَواطن الاختلاف والتميز للاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الرأسمالي، ومدى النجاح الذي حققته المؤسسات المالية والاستثمارية التي تبنت مبادئ الاقتصاد الإسلامي في خضم زوبعة الأزمة المالية العالمية. هذا الحديث ومجمل الأحاديث والندوات والمحاضرات والمقالات التي تتحدث عن الاقتصاد الإسلامي، والتي برزت إلى السطح بشكل كبير إبان الأزمة المالية العالمية، دفعتني إلى كتابة هذا المقال في محاولة لطرح وجهة نظر موضوعية حول هذا الموضوع، انطلاقا من إيمان مطلق بعمق مفهوم الاقتصاد الإسلامي، وأهمية رفع رايته في بلادنا التي تعد إمام المسلمين ومهد الحضارة الإسلامية.
مفهوم الاقتصاد الإسلامي هو مفهوم قديم قدم الرسالة السماوية، وشكل على الدوام أحد أركان إدارة الدولة الإسلامية منذ بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا المفهوم الذي يقوم على مبادئ العدالة ومنع أكل الحقوق واستغلال الحاجات يبرز عظمة الدين الإسلامي، ويؤكد تبنيه المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي كانت على الدوام أساسا لكل الرسالات السماوية. وفي الحقيقة، فإن أي تعارض لأية تطبيقات ترفع راية الإسلام مع مضمون هذه المبادئ إنما يبرز خطأ تلك التطبيقات، وليس خللا في أساس مفهوم الاقتصاد الإسلامي، وهو ما يمكن أن يكون أحد أوجه التباين بين مبادئ الدين الحنيف كافة وواقع تطبيقات المسلمين لتلك المبادئ في شؤون حياتهم كافة، إذ إن هذا التباين لا يمكن أن يصم الإسلام بالخلل، بل يبرز خلل التطبيق. والمشكلة أن هذا التباين بين المبادئ والتطبيقات لا يسيء فقط إلى المسلمين أنفسهم، بل إنه يجر الإساءة إلى الدين الإسلامي نفسه، خاصة من قبل المتصيدين من أعداء الأمة، الذين يبحثون عن أية سقطات أو ثغرات ينفذون منها للانتقاص والنيل من هذا الدين الحنيف ومبادئه السامية. ولأن شؤون الاقتصاد تمس حياة الناس ومعايشهم، فإن هذا الجانب قد يكون أحد أوقع الجوانب أثرا في تشويه صورة المجتمع الإسلامي، والإساءة إلى مبادئه. ومن هنا يأتي خطر التباين الكبير الذي نشهده بين تطبيقات الاقتصاد الإسلامي ومبادئه، والتي ينصب حولها مجمل حديثي في هذا المجال.
خلال السنوات العشر الأخيرة شهد المجتمع الاقتصادي في المملكة تصاعد نبرة الحديث عن الاقتصاد الإسلامي، وبروز العديد من المؤسسات المصرفية والاستثمارية التي رفعت راية الأسلمة في عملياتها وخدماتها وأنشطتها، حتى أن عديدا من المؤسسات المصرفية والمالية العالمية التقليدية فتحت بوابات خاصة وأنشأت قنوات للعمليات الإسلامية. والمشكلة، أن الكثير من هذه المؤسسات لم تبن عملياتها وخدماتها على إيمان عميق بروح وأسس ومبادئ الاقتصاد الإسلامي، بل جاءت لتقتطع حصة من هذا السوق المتنامي، وسعت إلى إلباس عملياتها وأنشطتها ثوب الأسلمة، في شكل من أشكال استغلال الدين لمصالح ومكتسبات دنيوية، وفي تعارض صارخ مع صلب مبادئ الاقتصاد الإسلامي التي تحارب الاستغلال وهضم الحقوق. والمشكلة، أن كثيرا من المؤسسات والشركات المحلية انجرفت في هذا المسار، بما فيها البنوك والمصارف التي سوقت للبطاقات الائتمانية الإسلامية ومبايعات التورق والتمويل الإسلامي، وهي جميعها تتم بتكاليف تفوق تكاليف الخدمات التقليدية، وتحمل مستخدمها أعباء إضافية كبيرة. وبما فيها الشركات العقارية التي نظمت وأسست لمساهمات عقارية يقودها أشخاص لبسوا صبغة دينية، وعادت في كثير منها وبالا على المساهمين الذين أغرتهم مظاهر الصدق والأمانة والتدين. وبما فيها شركات التمويل والتقسيط للسيارات والأثاث والسلع الاستهلاكية التي حمَّلت المستهلكين تكاليف وأعباء كبيرة؛ استغلالا لحرصهم وتمسكهم بنقاء تلك المبايعات والعقود وعدم الوقوع في الربا المحرم. وفي النتيجة، أصبحت معظم التطبيقات والخدمات التي يتم تقديمها على أنها إسلامية منافية للأسس التي قام عليها الاقتصاد الإسلامي، وباتت تعبر عن نزعة استغلالية ينظر إليها مناهضو الاقتصاد الإسلامي على أنها نموذج للخلل الذي يمكن أن يحدثه الاقتصاد الإسلامي، وهو منها براء.
المشكلة أن هذه المظاهر الاستغلالية تتم ممارستها بشكل متزايد ومتصاعد في غياب مطلق لأية رقابة أو تنظيم من قبل الجهات الحكومية الرسمية ذات العلاقة. وهذا الواقع عبَّر عنه فضيلة الشيخ عبد الله المنيع الأسبوع الماضي، وقبله الكثيرون، حين ألقى باللوم على مؤسسة النقد العربي السعودي في إحجامها عن القيام بدورها في تنظيم الأنشطة المصرفية والاستثمارية الإسلامية في المملكة. هذا الغياب أفسح المجال لما نشهده من تلاعب واستغلال، وأضر كثيرا بالمستهلكين من المواطنين البسطاء، وتسبب بشكل مباشر في كثير من الأزمات التي عصفت بمدخرات الناس، والتي ليس أولها ولن يكون آخرها انهيار سوق الأسهم وما جرّه من خسائر فادحة على عموم الناس، بعد أن أغرتهم البنوك والمصارف بقروض إسلامية ميسرة تفتح لهم باب الثراء السريع، متناسين أن الاقتصاد الإسلامي الحق يدفع إلى تنمية حقيقية للمجتمعات الإسلامية، وليس إلى غرس ثقافة الاستغلال والتكسب من حاجات الغير والتربح السريع.
المظهر الآخر لمظاهر التكسب من هذه القضية هو ظاهرة الهيئات الشرعية في البنوك والشركات الاستثمارية، التي تستخدمها تلك البنوك والشركات لتكييف منتجاتها وخدماتها لتكون موافقة للمبادئ الشرعية، ومن ثم يتم الإعلان عنها بختم اعتماد تلك الهيئات في إعلاناتها ودعاياتها التجارية في امتهان تسويقي مبتذل لمبادئ الاقتصاد الإسلامي السامية. أكبر الشواهد على هذا الخلل وهذه المتاجرة بالفتاوى الاقتصادية هو تشتت جهود تلك الهيئات، وغياب التنسيق بين فتاواها. وأصبح كل بنك وكل شركة يضم هيئة شرعية خاصة به تنتج له الفتاوى على المقاس، مع أن بعض أعضاء تلك الهيئات يعمل في أكثر من هيئة، ويتقاضى من كل منها دخلا مجزيا يوازي حجم العائد على تلك العمليات والخدمات المدعومة بتلك الفتاوى. وبعد أن صدر التوجيه السامي بتوحيد الفتوى في المملكة عقدت الأمل على أن يشمل هذا التوحيد عمل الهيئات الشرعية، ليتم توحيدها على الأقل في هيئة شرعية واحدة تنظم إصدار الفتاوى المتعلقة بالقطاع المالي والاستثماري بشكل موحد، ولكن هذا الواقع استمر متجاوزا ذلك التوجيه السامي، خاصة في ظل غياب الرقابة التي أشرنا إليها من قبل مؤسسة النقد العربي السعودي، والتي كان يمكن لها أن توظف هذا التوجيه الحكيم لمعالجة هذه المشكلة، والانخراط في أداء دورها المأمول في تنظيم هذا القطاع وحمايته من التلاعب والاستغلال.
خلاصة القول، علينا أن نصلح ذاتنا قبل أن نصلح الغير. وإن كنا نريد بالفعل أن نشيع مبادئ الاقتصاد الإسلامي في العالم كله فعلينا أولا أن نكون قدوة حسنة لهذا العالم، وأن نثبت له أن هذا الاقتصاد يسمو بالبشرية ويدعم التنمية وعمارة الأرض، وليس وسيلة لاستغلال الناس والتربح من حاجاتهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي