مشاهدات من «سيتي سكيب» الرياض

يبدو أن ''سيتي سكيب'' أصبح الطوفان الجديد في مجال المعارض والمؤتمرات العقارية. كنت أحد أوائل المواظبين على حضور هذا الحدث المتخصص منذ بداياته الأولى في عام 1996 في مدينة دبي، وشهدت نموه منذ أن كان حدثا بسيطا يحتل قاعة صغيرة في أحد فنادق تلك المدينة، ونموه وتعاظمه إلى أن أصبح يشغل كامل مساحات مركز معارض مدينة دبي، الذي هو الأكبر مساحة في كل المنطقة العربية، ومن ثم اضمحلاله وتقلصه إبان الأزمة المالية العالمية، وهي المرحلة الجديدة من عمر هذا الحدث، الذي تبنى مبدأ الانتشار الجغرافي، وأصبحت معارض سيتي سكيب حدثا رئيسا مؤثرا في دبي وأبو ظبي وسنغافورة والبرازيل والهند وجدة، وهذه السنة شهدت مدينة الرياض النسخة الأولى منه، وستشهد كل من القاهرة وبيروت في العام القادم نسخها الأولى أيضا، وربما ستشهد الأعوام القادمة انتشار هذا الحدث في كثير من المدن والعواصم العربية والعالمية الأخرى. هذا المشهد يعبر من جهة عن نجاح القائمين على هذا الحدث في تحقيق اختراق كبير على مستوى احترافية التنظيم المتخصص، إلى الحد الذي أصبح الحدث في حد ذاته علامة تجارية بارزة تسعى الدول إلى استقطابها لتحقيق عنصر الجذب السياحي من جهة، وتسويق إمكاناتها العقارية من جهة أخرى. ويعبر هذا المشهد من جهة أخرى عن الضعف الذي تعانيه الأحداث العقارية المحلية الأخرى، خاصة في بلادنا، وعجزها عن تحقيق مثل هذا الاختراق الاحترافي المنظم، وهو ما كنت دوما أشير إليه في ملاحظاتي المتكررة حول تشتت جهود تنظيم المعارض العقارية في المملكة، وإغراقها في المحلية والإقليمية، واعتمادها المطلق على الجهود الفردية بعيدا عن أسس العمل المؤسسي الاحترافي المنظم. ومع أني لا أتفق مع مثل هذا الغزو التوسعي الذي يعبر عنه نموذج ''سيتي سكيب''، وأميل إلى التعاطف مع تلك المعارض المحلية، وخاصة معرض الرياض للعقارات، الذي يمثل في نظري أنجح تلك المحاولات المحلية، إلا أنني أتطلع إلى أن يحقق هذا الغزو حافزا مؤثرا للمعارض المحلية للخروج من هذا القالب المتكرر؛ لتسعى لمقارعة هذا الحدث بجهود أكثر تنظيما واحترافية وتخصصا.
سيتي سكيب الرياض لهذه السنة، والذي شهدت تنظيمه هذه المدينة الكبرى الأسبوع الماضي، جاء متواضعا بالمقارنة مع النماذج التي اعتدنا مشاهدتها في سابق الأعوام في دبي وأبو ظبي وحتى جدة. ربما كان ذلك نتيجة كونها المرة الأولى التي يتم تنظيمه في هذه المدينة، حيث فضلت كثير من الشركات العقارية جس نبض مقدار النجاح الذي يحققه في جذب الزوار إليه. وربما كان السبب أيضا واقع السوق العقارية الذي يشهد ركودا خانقا منذ أكثر من سنة، نتيجة لتذرع معظم اللاعبين في هذه السوق بانتظار صدور أنظمة الرهن العقاري من جهة، وانحسار مساهمات برامج التمويل العقاري في دعم حركة التطوير وتحريك المياه الآسنة فيه. وربما كان أحد الأسباب أيضا تزامن تنظيم هذا الحدث مع معرض الظهران للعقارات، الذي استقطب عددا من الشركات العقارية في تلك المنطقة، وأشغلها عن التواجد في حدث الرياض الأكبر حجما والأكثر احترافية في التنظيم. الملاحظة الأهم كانت في نسبة مشاركة الشركات الخليجية، وخاصة الإماراتية منها، مقارنة بالشركات السعودية؛ إذ كان عدد الشركات الإماراتية المشاركة في هذا الحدث يمثل نحو 60 في المائة من نسبة عدد المشاركين، وهي ضعف نسبة عدد الشركات السعودية التي بلغت نحو 30 في المائة فقط من عدد المشاركين. وهو ما يؤكد في وجهة نظري الأسباب التي ذكرتها لتبرير تواضع حجم الحدث لهذا العام، خاصة مسألة تزامن تنظيمه مع معرض الظهران العقاري.
تواضع سيتي سكيب الرياض لم يأت فقط على مستوى مساحة المعرض فقط، ولا من حيث نوعية المشاركين فيه، والذي شهد غيابا مطلقا لكبريات الشركات العقارية المعروفة على المستويين المحلي والوطني، بل كان على مستوى المؤتمر المصاحب أيضا، والذي شهد حضورا خجولا من المتخصصين والعاملين في هذا السوق، وغيابا مطلقا للجهات الحكومية ذات العلاقة بهذا القطاع، وهو الغياب الذي اعتدنا عليه في المناسبات والمحافل المشابهة كافة، معبرا عن خلل كبير في تبني لغة الحوار والتخاطب والتواصل بين مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص؛ سعيا إلى تحقيق الشراكة التي ندعو إليها لمعالجة مشاكل هذا القطاع. وبالرغم من هذا الغياب والحضور الخجول، إلا أن جلسات المؤتمر حفلت بالعديد من الموضوعات التي جاءت ملامسة لمشاكل القطاع العقاري، وشهدت نقاشات ومداولات اتسمت بالشفافية والصراحة والوضوح، وطرحت رؤى ومقترحات كثيرة يمكن أن تؤسس في حال تبنيها لنهضة كبرى في هذا القطاع، وتصحيح فعال لمسار العمل فيه، والمشاكل التي يعانيها. قضية الإسكان كانت القضية الرئيسة التي دار حولها الحديث في معظم جلسات المؤتمر، وحفل النقاش بالعديد من الطروحات التي تناولت هذه القضية بالبحث والتحليل، بمشاركة فاعلة من عدد من الخبراء العالميين الذين استقطبهم المؤتمر. المؤسف في هذا الأمر أن غياب القطاع الحكومي عن هذا الحدث حرمه من التفاعل مع محتوى النقاش، وحتى من طرح وجهة النظر المقابلة تجاه كم التهم التي كالها المتحدثون من القطاع العقاري الخاص للقطاع الحكومي، وأبرزوا فيها رؤيتهم حول العقبات والمشاكل التي أناطوا مسؤولية حلها بالقطاع الحكومي، في شكل من أشكال إلقاء المسؤولية على أطراف أخرى في المعادلة. المؤسف أيضا أن هذا الدور السلبي للقطاع الحكومي لم يتوقف فقط عند الغياب عن المشاركة في جلسات النقاش، بل تخطاه إلى محاولة التأثير عليها، عبر إرسال إشارات وتوجيهات من عدد من المسؤولين الذين حضروا إلى المؤتمر بصفتهم الشخصية، وأوعزوا إلى المنظمين بعدم التطرق إلى بعض الموضوعات الحساسة، وعلى رأسها موضوع أنظمة الرهن العقاري التي طال انتظار صدورها، وأصبحت هاجسا لكل المواطنين، وأثرت سلبا على واقع السوق العقارية، وعادت عليه وبالا بالركود والموات. هذا التأثير السلبي يبرز واقع الخلل في العلاقة بين القطاعين الحكومي والخاص، وغياب الشفافية في التعاطي مع هذه القضايا، في مخالفة صريحة للمبادئ التي أسسها ويدعو إليها قائد مسيرة التنمية في بلادنا، والتي دونها لا يمكن لمشاكل هذا القطاع، وأي قطاع، أن ترى بصيص نور الأمل لحلها وتجاوزها في مسيرة التنمية.
خلاصة القول، هذا الحدث وبقية المحافل المشابهة هي وسيلة للتواصل والحوار بين مختلف الجهات ذات العلاقة في قطاع هو الأهم والأكبر في حجم التنمية بعد قطاع النفط. ومقاومة تنظيم مثل هذا الحدث وما يدور فيه من نقاش وحوار هي مقاومة لتفعيل جهود التنمية، وتعطيل لمساعي النجاح الذي يتطلع إليه الجميع. ولنا في ملكنا العظيم القدوة الحسنة، وهو الداعي والداعم الأكبر لثقافة الحوار وتبادل الخبرات والثقافات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي