في مركز سابان.. العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية والخيارات الصعبة

في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) الحالي، عقد في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط التابع لمعهد بروكينجز الشهير، المنتدى السنوي السابع لمركز سابان، الذي تناول هذه المرة: ''العلاقات الإسرائيلية ـــ الأمريكية: مواجهة القرارات الصعبة''. وجمع المنتدى هذه المرة عددا من السياسيين المهمين في صناعة القرار في إسرائيل والفلسطينيين والأمريكيين، كما حضرت أيضا زعيمة المعارضة الإسرائيلية تسيبي ليفني، وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض، وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، ومبعوث اللجنة الرباعية توني بلير.
يعد مركز سابان أحد الأقسام المهمة التي تتبع لمعهد بروكينجز، إذ استطاع أن يحتل موقعا مرموقا ومؤثرا في صناعة مراكز ''ثنك تانك''. وقد أسس المركز عام 2002 وحمل اسم المتبرع الرئيس إلا وهو حاييم سابان، وهو رجل أعمال أمريكي يهودي ولد في مصر وهاجر لإسرائيل في وقت مبكر من عمره. ويعد أحد كبار شخصيات الفن والإعلام الأمريكي إذ أنتجت شركته ''سابان إنترتينمنت'' عديدا من الأفلام. والمركز يعمل برئاسة مارتن إيندك صاحب نظرية الاحتواء المزدوج لكل من العراق وإيران في التسعينيات من القرن الماضي، وارتبط اسمه بشكل وثيق بمفاوضات السلام وشغل منصب سفير لأمريكا في إسرائيل مرتين.
اللافت أن عقد المنتدى جاء بعد أيام قليلة من إعلان الإدارة الأمريكية أنها عاجزة عن إقناع حليفها الإسرائيلي لتمديد فترة تجميد الاستيطان، وبعد ذلك الإعلان جاءت هيلاري كلينتون ببيان أكدت فيه أن الولايات المتحدة لم تستسلم وأنها على وشك القيام بخطوات بديلة لتحريك عملية السلام قدما. أمريكا الآن تواجه مشكلة فجوة في المصداقية في منطقة الشرق الأوسط بعد أن تبيّن للجميع أن واشنطن غير قادرة على إجبار إسرائيل على سماع كلمة الدولة الأعظم، والحقيقة أن الرئيس أوباما خسر كثيرا في الشارع العربي بعد أن رفع سقف التوقعات، وبدلا من الإصرار على تحقيق نصر على المتشدد نتنياهو اختار طوعا أن يعلن أن إدارته غير قادرة على عمل شيء، وبالتالي على الجميع الذهاب للمفاوضات دون شرط تجميد الاستيطان. من غير الواضح لغاية الآن كيف ستتصرف أمريكا حيال استعادة ولو جزء من مصداقيتها المفقودة في إقليم الشرق الأوسط.
هناك نوع من الترقب، وبخاصة أن أعدادا متزايدة من الأمريكان باتت تؤمن بضرورة التحرك بعد أن تم تفسير الفشل الأمريكي في دفع إسرائيل على قبول فكرة تجميد الاستيطان كإهانة وجهت لمنصب رئيس أقوى بلد في العالم. وبالفعل فقد تمت استضافة كل من سلام فياض وتسيبي ليفني من قبل الإعلامية المشهورة كريستيان أمانبور. وفي المقابلة أشارت الإعلامية المشهورة إلى ما سمته الإهانة التي وجهتها إسرائيل لرئيس الولايات المتحدة باراك أوباما عندما رفض نتنياهو طلب الرئيس أوباما تمديد فترة تجميد الاستيطان.
اللافت أن تسيبي ليفني انتقدت نتنياهو واعتبرت أن إجابة نتنياهو على طلب أمريكا تجميد الاستيطان خاطئة، كما أكدت أن العمل على تحقيق حل الدولتين إنما يخدم مصالح إسرائيل كما تراها أكثر من كونه معروفا يسديه نتنياهو للرئيس أوباما. كما استضاف لاري كينج من محطة ''سي إن إن'' كلا من سلام فياض مرة أخرى ووزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، الأخير لم يتردد من القول إنه ليس فقط مع حل الدولتين، بل مع تقسيم القدس، وهو موقف قال عنه نتنياهو إنه لا يمثل حكومته وإن ما تفوه به باراك لا يتعدى كونه رأيا شخصيا. المدهش حقا هو الدعوة التي تلقتها تسيبي ليفين للقاء خاص مع هيلاري كلينتون لمدة ساعة كاملة، إذ استغرق اللقاء أكثر بكثير من لقاء هيلاري مع إيهود باراك. لا نعرف إن كان في ذلك رسالة لنتنياهو من أن واشنطن قد تلجأ لتعزيز العلاقة مع المعارضة الإسرائيلية بشكل قد يدفع على انهيار حكومة نتنياهو قبل موعدها، وخاصة إذا ما شعر الجمهور الإسرائيلي بأن هناك بديلا قويا لنتنياهو مدعوما من أمريكا.
وقد ركز المنتدى السابع على القرارات الحرجة التي على قادة الولايات المتحدة وإسرائيل معالجتها من أجل تحريك عملية السلام الفلسطينية ـــ الإسرائيلية قدما، وركزت جلسات المنتدى المتعاقبة على التحديات المشتركة التي تواجه واشنطن وتل أبيب، ومنها التغير في قيادة مجلس النواب في الكونجرس عقب الانتخابات النصفية التي جرت في تشرين الثاني (نوفمبر) وأفضت إلى فقدان الحزب الديمقراطي أغلبيته، والتغير في القوة في الشرق الأوسط والجهود العالمية لوضع حد لنشر الأسلحة النووية، وهو الملف الذي تحاول إسرائيل الرسمية التشبث به لخلق انطباع بأن التهديد الإيراني يأخذ أسبقية على حل الصراع العربي ـــ الإسرائيلي.
ولعل خطاب وزيرة الخارجية الأمريكية هو الأكثر ترقبا نظرا لعجز أمريكا في إقناع أو حتى ممارسة الضغط على تل أبيب لتحقيق شرط استئناف المفاوضات المباشرة وهو تمديد فترة تجميد الاستيطان التي أصر نتنياهو وحكومته على التمترس خلف مواقفهما المتشددة إياها. وقالت إنها محبطة من حقيقة أن التقدم لم يحصل كما كانت تأمل لكنها أيضا وإنها لن تتوقف عند هذه النقطة بالتحديد وإنما ستنظر للأمام حتى تساعد طرفي الصراع على تحقيق حل الدولتين بشكل يضع حدا للصراع مرة واحدة وللأبد، وإنها ستركز على ما يتطلبه الأمر لتحقيق الهدف الضروري على صعوبته.
وجاءت كلمة كلينتون بشكل غير مفاجئ، إذ ركزت على ما بات مألوفا من مواقف أكدت فيها التزام إدارة الرئيس على بقاء وأمن ومستقبل إسرائيل، وقالت إن الموضوع ليس مسألة خيار سياسي بقدر ما هو معتقد شخصي تتبناه بقوة هي والرئيس أوباما. وذكرّت الحضور الإسرائيلي بأن إدارة الرئيس عملت طوال العامين الماضيين على مد يد العون لإسرائيل حتى يتسنى لإسرائيل مواجهة كل التحديات لمستقبل إسرائيل كدولة ديمقراطية ويهودية. وفي الوقت ذاته أكدت على رؤية أمريكا للإقليم وهي رؤية لا تختلف كثيرا عن رؤية إسرائيل، إذ شددت على أن الخطر الاستراتيجي الأكبر قادم من إيران النووية، ولهذا السبب فإن الولايات المتحدة ملتزمة باستراتيجية المنع prevention وليس الاحتواء containment للملف النووي الإيراني. لكن هل إيران وحلفاؤها في المنطقة هم الخطر الوحيد الذي تواجهه إسرائيل؟
من وجهة نظر الولايات المتحدة الموضوع لا يتوقف عند إيران وما تقوم به وحلفاؤها التابعون لها، فالقضية أكبر من ذلك لأن استمرار الصراع بين العرب وإسرائيل وبين الفلسطينيين والإسرائيليين يخلق التوتر الذي يقوض الاستقرار الإقليمي، ويقف عائقا أمام تقدم الإقليم بشكل عام. وخلال كلمتها، عبرت وزيرة الخارجية الأمريكية عن تصور لمستقبل المنطقة إن لم يكن هناك حل واضح يضع نهاية للصراع، فلا يمكن الركون لحقيقة أن تحسنا كبيرا طرأ على الأمن الإسرائيلي في السنتين الأخيرتين، لأن القضية أيضا أعمق، وربما تفهم كلينتون الأمن من منظور ديموغرافي أيضا. لذلك أشارت في كلمتها للاتجاهات الديموغرافية على المدى البعيد وكيف يمكن لهذه الاتجاهات أن تشكل خطرا كبيرا على رؤية الصهيونية لدولة يهودية وديمقراطية، وبدأت اللحظة الحرجة تقترب التي على إسرائيل عندها أن تختار إذا ما أرادت أن تحتفظ بالميزتين (يهودية وديمقراطية) بما يجب أن تقوم به، في إشارة واضحة إلى أن هناك تناقضا واضحا وصارخا بين إطلاق العنان للاستيطان والوضع الراهن والحفاظ على دولة إسرائيل ديمقراطية ويهودية.
وأبعد من ذلك قدمت الإدارة الأمريكية على لسان هيلاري كلينتون رؤيتها حول مكونات الأمن الإسرائيلي، فالأمن لا يتحقق إلا بالسلام نظرا لتطور تكنولوجيا السلاح، ما أدى إلى صعوبة أن تدافع إسرائيل عن أمنها بالطرق التقليدية. فاستمرار الصراع يقوّي من وصفتهم بالمتطرفين ورافضي السلام في الإقليم ويضعف القوى المعتدلة التي تسعى لتحقيق السلام وتظهر اعتدلا كبيرا في سلوكها السياسي، فازدياد مستوى التطرف في الإقليم وخاصة بين شريحة الشباب إنما يرفع من نسبة التأييد للأيديولوجيات العنيفة بشكل يعمل على تقويض الاستقرار والازدهار في منطقة الشرق الأوسط. وهنا تقول كلينتون إنه بمراقبتها لهذه الشواهد فهي تزداد اقتناعا بأن المخرج الوحيد الذي يمكّن إسرائيل من الحفاظ على أمنها هو عملية سلام شاملة في المنطقة.
وعلى نحو لافت، قامت وزيرة الخارجية ببيان أين تقف الولايات المتحدة في القضايا الخمس الكبرى التي تشكل جوهر قضايا الحل النهائي، ولكنها لم تخرج عن إطار العموميات، ولم تشر ولو لمرة واحدة إلى أن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم تصور تفصيلي للحل في حال فشل الأطراف الاتفاق على حدود الحل النهائي في القضايا كافة. هذا الموقف الضعيف لا يعكس في واقع الأمر موقف الشارع الأمريكي الذي يريد أن يرى نهاية للصراع العربي ـــ الإسرائيلي. فكما كشف خبير استطلاعات الرأي شبلي تلحمي في كلمة له قدمها أمام المنتدى استعرض فيها نتائج استطلاعات الرأي، فإن القضية الفلسطينية بالنسبة للشعب الأمريكي هي ليست فاقدة لأهميتها، فقد أفاد ما يقارب ربع العينة بأن الصراع العربي ـــ الإسرائيلي هو أحد أهم ثلاث مصالح للولايات المتحدة، بينما أفاد ثلثا المستطلعة آراؤهم بأن القضية هي ضمن أهم خمس مصالح بالنسبة لأمريكا، كما أن هناك ما بقارب 71 في المائة من الشعب الأمريكي ـــ كما كشف الاستطلاع نفسه ـــ مع أن تستمر الولايات المتحدة في جهودها التوسطية في الصراع لعلها تسهم في تحقيق حل لهذا الصراع. اللافت أن ثلثي الشارع الأمريكي مع ألا تنحاز أمريكا لأي طرف من أطراف الصراع، بينما هناك ما يقارب 25 في المائة يريدون أن تنحاز أمريكا في المفاوضات لصالح إسرائيل في حين عبر 2 في المائة عن رغبتهم في أن تنحاز أمريكا لصالح الفلسطينيين.
باختصار، يمكن القول إن المنتدى الذي بات يعقد بشكل سنوي إنما يعبر عن عمق العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، فهناك اعتقاد واسع بأن عمق العلاقة واستراتيجيتها هو الثابت وأن ما يحدث بين الفينة والأخرى من خلافات في الرأي بين إدارة تريد تحقيق السلام وحكومة يمينية تهرب من السلام لا يؤثر كثيرا ولا يمنع المنظمات غير الحكومة ومراكز التفكير في الولايات المتحدة من الاستمرار في الاشتباك مع إسرائيل بشكل ما وكأن العلاقات الثنائية ما زالت سمنا على عسل كما يقال في المثل العامي. لكن تجب الإشارة إلى أن ما جرى في المنتدى الأخير أيضا يكشف مدى التصدع في الموقف الإسرائيلي، إذ لا توجد توافقات وطنية داخل إسرائيل تصلح لتكون قاعدة للانطلاق والعمل في مظلة استراتيجية واحدة، فقد شاهدنا تسيبي ليفني وكأنها تقوّض مكانة نتنياهو في واشنطن.
في وقت ليس ببعيد عندما شعرت الإدارة الجمهورية بقيادة بوش الأب بأن إسحق شامير كان عقبة أمام عقد مؤتمر للسلام، عملت على ممارسة كل ما تملك من قوة تأثير على التدخل في انتخابات عام 1992، ما أدى إلى خسارة مدوية لشامير وكل قوى التطرف. صحيح أننا لا نتوقع أن تقوم الإدارة الحالية بممارسة الضغط الذي يرفع تعنت الحكومة الإسرائيلية داخليا، لكن هناك إمكانية إحداث تعديل على الائتلاف الحاكم، حيث يكون أقرب للموقف الأمريكي من حكومة نتنياهو الحالية التي على غير الأرجح أن تجنح للسلم. فهل يمكن اعتبار لقاء هيلاري وتسيبي ليفني مقدمة في هذا الاتجاه؟ لننتظر ونرى!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي