ما لم يقله القائلون عن ميزانية الدولة
صدرت يوم الإثنين الماضي بيانات الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2011. كان الجميع في انتظار هذا الصدور، وتوجس كثير منهم خيفة حيال تأخر صدورها مقارنة بموعد صدورها المبكر في العام الماضي، إذ سبق هذا الموعد بنحو شهر كامل. عندما صدرت بيانات الميزانية ارتاح من أوجس تلك الخيفة، وتنفس الناس كلهم الصعداء، إذ جاءت ميزانية هذا العام لتضرب رقما قياسيا جديدا في معايير النمو في الإيرادات والنفقات، وتعد سنة حافلة بالنشاط والإنجاز، خاصة أنها اتسمت هذا العام، على خلاف سابق الأعوام، بمزيد من التركيز على التنمية البشرية، وأوردت لأول مرة نصوصا تؤكد اهتمام الدولة بتطوير التعاملات الإلكترونية وتقنية المعلومات. ومنذ صدور الميزانية الأسبوع الماضي، حفلت الصحف اليومية ومختلف محافل الإعلام بزخم حاشد من تعليقات كتاب الرأي حول تلك الميزانية، تناولوا فيها بالنقاش والتمحيص بنود الميزانية ومدلولاتها من جوانب متعددة. ومع أني لا أعد نفسي من بين المتخصصين في هذا المجال، ولا أملك القدرة والمهارة العلمية للانخراط في تلك المناقشة، إلا أنني وددت أن أدلي بدلوي في هذا النقاش، بأن أشير إلى مجموعة من النقاط التي ربما لم يتناولها أساتذتي وزملائي بالحديث، علها تسهم في إثراء النقاش حول هذا الموضوع الحيوي.
من المعلوم أن ميزانية الدولة السنوية تمثل الوجه المالي لخطط التنمية الخمسية، والمعيار العملي لقياس مدى انسجام تلك الخطط مع آليات تنفيذها. وانطلاقا من هذه الحقيقة، عرجت إلى المقارنة بين ميزانية هذا العام والعام الماضي، وخطة التنمية التاسعة التي تم اعتمادها منذ أشهر قليلة، تلك الخطة التي رسمت توجهات التنمية الوطنية للفترة من 2010 إلى 2015. وفي الوقت الذي كانت ميزانية عام 2010 قد صدرت سابقة لصدور الخطة التاسعة، مع أن عام 2010 هو أحد أعوام الخطة، إلا أن ميزانية عام 2011 تمثل في حقيقتها المحك الحقيقي لاختبار مقدار انسجام مخصصات الميزانية مع مضامين الخطة الخمسية. وفي الحقيقة، فإن ميزانية هذا العام لا تعبر بشكل عملي عن الانسجام المأمول مع مضامين تلك الخطة، خاصة أنها تمثل ميزانية السنة الثانية من عمر الخطة. فعلى سبيل المثال، فإن مخصصات تنمية قطاع الإسكان في العام الثاني من عمر الخطة لا تعبر عن تسخير الإمكانات لتنفيذ عدد الوحدات السكنية التي حددته الخطة بمقدار 200 ألف وحدة سكنية في العام، أي 400 ألف وحدة في عامي 2010 و2011، خاصة أننا اطلعنا الأسبوع الماضي على تصريح للهيئة العامة للإسكان تشكو فيه عدم توافر الأراضي اللازمة لتنفيذ برنامجها لبناء 66 ألف وحدة سكنية. والمثال الآخر يتعلق بتوجه الدولة نحو تنمية قطاع الصناعة ليكون الخيار الاستراتيجي الأول لتنويع مصادر الدخل في المملكة وفقا لرؤية الملك القائد، في الوقت الذي لم تتضمن ميزانية هذا العام أي أرقام أو آليات تدعم هذا التوجه، خاصة في ظل استمرار بقاء قطاع الصناعة قطاعا ثانويا ضمن اختصاصات وزارة التجارة والصناعة. هذان المثالان، وغيرهما من الأمثلة لا يقللان من أهمية التطلعات التي تبنيها الميزانية المعتمدة لهذا العام، إلا أنها تثير التساؤلات حول فعالية آليات التخطيط المتبعة ودور وزارة التخطيط من جهة، ومدى قناعة وزارة المالية بها من جهة أخرى. الأمر الأكيد أن هذا التباين يعبر عن وجه من أوجه الخلل الذي تجب معالجته، حتى تكون الميزانية السنوية أداة حقيقية وفاعلة لتنفيذ توجهات خطط التنمية، وتحقيق تطلعات الدولة في التنمية المتوازنة على المجالات كافة.
الوجه الثاني من أوجه النقاش يتعلق بآليات تنفيذ مشاريع التنمية التي اعتمدتها الميزانية، فاستمرار العمل بالآليات القديمة ذاتها وفق نظام المشتريات الحكومية يثير المخاوف من استمرار ظاهرة تعثر تنفيذ المشاريع الحكومية، خاصة في ظل غياب أي مبادرات فاعلة لمعالجة هذه الظاهرة من جذورها. والمشكلة أن الميزانية السنوية للدولة لم تتضمن أي مؤشرات أو معلومات حول نسب الإنجاز في المشاريع المعتمدة في ميزانية السنة الماضية، وكم من تلك المشاريع المعتمدة في السنة الماضية تم تأجيله أو تمديده ليكون ضمن مخصصات التنفيذ للسنة القابلة. وليس لنا في هذه الحالة إلا تبني المشاهدات الملموسة لواقع الحال في تأخر وتعثر تنفيذ العديد من المشروعات المعتمدة في السنوات الماضية، فيما عدا تلك المشروعات التي تمت ترسيتها ويجري تنفيذها خارج إطار نظام المشتريات الحكومية، ومنها على سبيل المثال مشروع جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، وقطار المشاعر، وعدد من المشروعات الأخرى، وهي المشروعات ذاتها التي تدور حولها التساؤلات من ناحية تكلفة تنفيذها المرتفعة مقارنة بمعدلات تكاليف تنفيذ المشروعات المعتمدة ضمن نظام المشروعات الحكومية. وفي الحقيقة، فإن تفعيل خطط التنمية تتطلب وقفة جادة ومراجعة فاعلة لآليات تنفيذ المشاريع، بما في ذلك مراجعة تصحيحية شاملة لنظام المشتريات والمنافسات الحكومية، خاصة أن الآراء اتفقت في الغالب على كونه العامل الأهم المتسبب في ظاهرة تعثر المشاريع في السنوات الماضية.
الوجه الثالث من أوجه النقاش يتعلق بقضية تعثر الصرف على المشروعات وقت صدور الميزانية، إذ إنه من المعلوم أن وزارة المالية تقوم بوقف الصرف على المشروعات لمدة تزيد على الشهر قبيل صدور الميزانية، وحتى توجيه مخصصات بنود المشروعات للسنة الجديدة للجهات المستفيدة منها. هذا الواقع سبب الكثير من المشكلات المتعلقة بالتدفق النقدي للمقاولين والاستشاريين المتعاقدين مع الدولة لتنفيذ مشروعات التنمية، خاصة في ظل انحسار التمويل والدعم البنكي لقطاع عريض من تلك المؤسسات إبان الأزمة المالية العالمية. والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو إن كانت مصروفات تلك الفترة قد سبق تخصيصها ضمن ميزانية العام السابق، فلماذا يتوقف الصرف من تلك البنود في انتظار صدور الميزانية الجديدة. وزارة المالية تملك مفتاح الإجابة عن هذا التساؤل، والأهم أنها مطالبة بمعالجة هذه المشكلة، عبر وضع الآليات اللازمة لضمان توافر المبالغ المخصصة لتلك العقود، واستمرار الصرف عليها حتى أثناء تجهيز مخصصات السنة التالية، لتفادي إيقاع مزيد من التأخير والتعثر بسير العمل في مشروعات التنمية، ورفع الضرر عن الجهات المكلفة بتلك المهام.
الجانب الأخير الذي أود الحديث عنه هو قضية بناء الإنسان كأحد أهم جوانب التنمية المستدامة لأي دولة، خاصة في دولة مثل المملكة تملك كل الإمكانات المادية اللازمة لبناء قدرات بشرية ترفع راية التنمية على المدى الطويل. وهو الجانب الذي سأخصص له مقالي القادم، بإذن الله، راجيا الله العلي القدير لكل الجهود التوفيق والسداد، ولملكنا المحبوب عودا حميدا لأرض الوطن، وهو يرفل بثوب الصحة والعافية، وكل عام ونحن والوطن بألف خير.