استشراف مستقبل صناعة المال الإسلامية
ركّزت تقارير العام المنصرم في معظمها على انخفاض الربحية نتيجة لرفع معدلات المخصصات في مقابل الاستثمارات العقارية التي تعاني ركودا والتي تأثرت بالأزمة المالية الأخيرة وكانت المصارف الإسلامية قد استثمرت فيها على أنها الأكثر اقترابا من الفكر المالي الإسلامي وتدعيمه بالأصول، وعلى كل الأحوال فقد اتفقت التقارير في معظمها على أن سنام صناعة المال الإسلامية ـــ المصارف الإسلامية ـــ استطاعت تجاوز الأزمة لا بفضل فن إدارة المخاطر فيها وإنما بسبب ارتكازها إلى أسس أخلاقية تجعل المخاطر في حدودها الدنيا.
ولكن كيف نرى مستقبل هذه الصناعة والتحديات تلفها من كافة الجوانب وخطوات الإعداد لا نراها كما يجب في عالم معولم؟
الفكر المالي لإدارة الأزمات اليوم يركز على موضوع الاندماجات والاندماجات الكبرى بين عدة شركات، وفي المقابل نجد البنوك الإسلامية والمؤسسات المالية الإسلامية سواء المصارف أو شركات التكافل أو حتى أسواق رأس المال لا تزال بحاجة إلى فكر أكثر تخصصية في الأداء ومستشرف للاحتياجات الآنية والمستقبلية ويسعى لمواكبة المستجدات بالسرعة اللازمة لتحقيق التنافسية، وعليه فإننا لا نرى بنوكا أو مؤسسات مالية إسلامية تندمج مع احتياجات المجتمع وتسعى إلى الدخول في قطاعات باتت هي الأكثر ضرورة وإلحاحا في مواجهة القصور الذي نشهده في الغذاء والماء والصناعات التابعة وما إلى ذلك، إضافة إلى احتياجات المنطقة للبنى التحتية.
من الناحية النظرية الفكر المالي الإسلامي لديه عقود جاهزة للمحافظة على التوازن في مخرجات الاقتصاد الكلي، ببساطة عقد السلم يناسب الاحتياجات الزراعية، والعالم الإسلامي بدأ يعاني من أزمة الغذاء بسبب عدم الاهتمام بالأولويات، والفوضى في استغلال الأراضي الزراعية وتحقيق التكامل ناهيك عن الإحصائيات المرعبة للقادم في هذا الاتجاه، وعند إسقاط فقه المقاصد والأخذ بأبعاده ربما يكون الاهتمام بالزراعة وتحقيق التكامل في هذا الاتجاه من أهم الأولويات. ولا نستطيع إغفال الصناعة والصناعات التحويلية التي يلائمها تماما عقد الاستصناع الذي لم أجد لغاية اللحظة إحصائية تفيدنا بمعدل استخدامه في التمويل الإسلامي المفعل اليوم بالرغم من أهميته، إضافة إلى احتياجات الدول الإسلامية إلى البنى التحتية وتطوير القائم منها من اتصالات، ومواصلات، وشبكات طرق، ومساكن، وتحلية مياه، إضافة إلى الكهرباء والطاقات البديلة .. كل ذلك وأكثر بحاجة إلى تفعيل الصكوك ليس على مستوى العقار فحسب وإنما على مستوى إدارة السيولة ككل. وبالرغم من المبادرات الماليزية في هذا الاتجاه إلا أننا نجد ضرورة التفات المؤسسات في الجزيرة العربية وبلاد الشام والانتباه إلى التكامل التمويلي فيما بينها عبر التمويل الإسلامي كبديل رئيسي للاقتراض بالطرق التقليدية.
إن تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص ـــ الأول ممثلا بالحكومات والثاني ممثلا بمؤسسات التمويل الإسلامي من مصارف وغيرها ـــ يستلزم خطوات مدروسة وخططا استراتيجية لتحقيق مفهوم الشراكة بين القطاعين.
إن العولمة التي تكتسح العالم اليوم بوسائل الاتصالات الحديثة وتسارع الخطو تجاه تغيير مفاهيم النقد السائدة والتعامل بالنقد عبر الوسائل التكنولوجية الحديثة يُحتم على المصارف الإسلامية الخروج من ضيق المرابحة إلى عالم أدوات التمويل الإسلامي الأكثر رحابة، وباتجاه تحقيق ثورة مبتكرة في عالم أدوات المصرفية الإسلامية وتحفيز ابتكار وهندسة المنتجات بما فيه مصلحة الصناعة ككل والمجتمع المحيط الذي طالما تنادت المؤسسات المالية الإسلامية بأنها ملتزمة تجاه المسؤولية الاجتماعية في مناطقها.
المؤسسات المالية الإسلامية لن تتحول بهذه الاستراتيجيات أو المقترحات إلى مؤسسات خيرية كما يدعي البعض بل ستتحول فعلا إلى مترجم حقيقي لأبعاد محددة في التمويل الإسلامي، وستبدأ رحلة التحول إلى محرك رئيسي لعملية تكاملية في الاتجاه الاقتصادي واستغلال كونها نقطة لحشد المدخرات إلى مركز للاستثمار الذكي والفاعل.
سؤال التحدي اليوم في مواجهة مؤسسات التمويل الإسلامي والمؤسسات التكافلية وأسواق رأس المال الإسلامي وأدواتها: إلى أين أنتم ذاهبون؟ وما استراتيجياتكم القائمة؟ هل هي الاستراتيجيات القائمة على إدارة الأزمات ومواجهة المخاطر وانتظار المعايير الصادرة من المؤسسات الدولية لترجمتها بالخاتم الإسلامي، أم الإبداع في ترجمة الاقتصاد الإسلامي النظري إلى اقتصاد أكثر مبادرة وأخذا بزمام الأمور؟
لا نقلل من أهمية مخرجات المؤسسات المالية الإسلامية اليوم، ولكن ننتظر المزيد في عالم متسارع يبحث عن البدائل وهي فرصة قد لا تتكرر في المستقبل؛ إن لم نُحسن استغلالها سيفوتنا القطار ونبقى في دائرة التقليد والربحية القائمة على استبعاد المخاطر ما أمكن دون النظر إلى أن الربح يتناسب طرديا مع الأخذ بالمخاطر.
ربما تكون النظرة التكاملية والتخصصية فيما بين المؤسسات المالية الإسلامية هي بداية الطريق لنرى بديلا للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي ولكن بالممارسة الإسلامية الفريدة وبعولمة أخلاقيات التعامل المالي الإسلامي وجعلها سفيرا عالميا عبر المؤسسات المالية الإسلامية لمرتكزات العدل في الإسلام وبقالب مؤسساتي يُحتّمه التعطش الواضح إلى أخلاقيات ممارسة في عالم المال اليوم.
حان الوقت لمؤسسات التمويل الإسلامي لأن تفكر بعقلانية واستشراف للمستقبل بنضج أكبر من عمرها الفتي، وحان لمحركي صناعة القرار فيها أن يثقوا بمنجزاتها لغاية اليوم وأن يطمحوا إلى تحقيق النقلات النوعية في الأداء وفي احترام دورها في تلبية احتياجات المنشآت والأفراد أكثر مما سبق.
إن استراتيجية الابتكار والتوعية الشاملة هي ما تحتاج إليه صناعة المال الإسلامية في خططها القادمة، إضافة إلى يقيننا بأن الربح لا يعني مجرد تحقيق الثبات في مواجهة الأزمات، وإنما أن نلمس ذات يوم تنوعا في المنتجات بعدالة احتياجات المجتمعات التي توجد في المؤسسات المالية الإسلامية، وقد لا نُعفي هذه المؤسسات التي روجت لنفسها تحت مظلة الإسلام عدم تفعيل ترجمة أبعاد الاقتصاد الإسلامي في الواقع المعاش واستمرار اتهامات التقصير المدعومة بإثباتات إحصائية.