بناء الإنسان أم بناء البنيان؟
كنت قد علقت في مقال الأسبوع الماضي على الميزانية العامة للدولة، متناولا بعض الجوانب التي رأيت أن النقاش الدائر حول الميزانية لم يتناولها بالطرح. بعد أن أتممت كتابة ذلك المقال وجدتني أنتبه إلى جانب آخر رأيت أن له من الأهمية موقع الرأس، وختمت ذلك المقال واعدا بأن يكون مقال هذا الأسبوع مخصصا للحديث عن هذا الجانب، وهو قضية بناء الإنسان في منظومة التنمية. هذا الجانب بالطبع لا يقع ضمن اختصاصات وزارة المالية، ولا يندرج بشكل مباشر ضمن بنود الميزانية العامة للدولة، ولكنه بالتأكيد يمثل صلب عملية التنمية وهدفها الأسمى، إذ إن كل جهود التنمية تصب بشكل أساسي في خدمة المواطن، وهو بالتالي محور العمل في كل آليات التخطيط الاستراتيجي لقضية التنمية.
أبدأ حديثي انطلاقا من مخصصات التعليم في ميزانية الدولة لهذا العام، التي بلغت 150 مليار ريال، وهو بالتأكيد رقم قياسي مثل نحو 26 في المائة من مجمل ميزانية الدولة. هذا المخصص يمثل مؤشرا لاهتمام الدولة بقضية التعليم، ويعكس إيمان القيادة بأهمية الاستثمار في العنصر البشري لأي تنمية يراد لها النجاح. المشكلة أن هذا المخصص الضخم هو في حقيقته موجه للصرف على رواتب منسوبي الوزارات والهيئات المختصة بقطاع التعليم والتدريب، ومخصصات المبتعثين ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، ومشروعات بناء المدارس والجامعات ومعاهد التدريب. وكل هذه الأوجه هي في حقيقتها لا تتضمن جهدا حقيقيا موجها لبناء الإنسان بالمفهوم الأشمل الذي يتطلبه نجاح عملية التنمية المتوازنة. إن قضية بناء الإنسان هي قضية استراتيجية طويلة المدى، تتعامل مع جوانب كثيرة من جوانب التعامل الإنساني والمجتمعي، وتتعلق ربما بمفهوم التربية أكثر منه بمفهوم التعليم. التربية التي تخلق بناء مجتمعيا متماسكا ملتفا حول قيادته، محققا مفهوم المواطنة الحقيقية، مؤمنا بقضية التنمية ودور كل فرد فيها. وإذا نظرنا إلى المجتمع السعودي نظرة فاحصة، وجدنا شرخا كبيرا في تركيبة الفرد والمجتمع السعودي، وتباينا فاضحا بين مكتسباته التعليمية من جهة والثقافية والتربوية من جهة أخرى. والشواهد على ذلك كثيرة ومتعددة، فمن حاصل على شهادة الدكتوراه من أرقى الجامعات العالمية يطلق زوجته بعد عشرة سنين لمجرد أن أختا لها تزوجت من نسب لا يقبله، إلى مظاهر التفاخر والتناحر حول خلافات عنصرية هَشَّة، إلى طغيان ظاهرة التكاسل والمطالبة بالحقوق عوضا عن السعي لها بكد حثيث لا يعرف الكلل، إلى طغيان ثقافة الربح السريع التي أوقعت الناس في كارثة الأسهم وما على شاكلتها، إلى شيوع ثقافة الاستهلاك عوضا عن توطين الصناعة، وحتى قيادة السيارات في بلادنا هي في أساسها مشكلة ثقافية تربوية، حتى إن نظام ساهر الذي وضعته الدولة هو في حقيقته قائم على الردع والعقوبة عوضا عن الترغيب والتربية. وهناك غير ذلك الكثير من الظواهر المجتمعية السلبية التي اتسم بها مجتمعنا السعودي، ولا يتسع المجال هنا لذكرها جميعا. هذا الواقع يبرز أهمية مراجعة سياسات بناء الإنسان في المجتمع السعودي، وإعادة التركيز على قضية التربية إلى جانب قضية التعليم. وفي الحقيقة، فإن معظم الجهود التي تقوم بها كثير من الأجهزة والهيئات الحكومية والخاصة هي في حقيقتها موجهة لمعالجة قضايا ناجمة عن فشل سياسات وجهود التربية. خذ مثلا قضية العمل، فوزارة العمل مسؤولة عن معالجة هذا الملف الشائك، في الوقت الذي تعاني فيه خلفيات ثقافية وسمت المجتمع السعودي، وجعلت معالجة هذه القضية محفوفة بالمشاكل والإخفاقات، بما في ذلك ظاهرة عدم قبول العمل في الكثير من الوظائف التي يترفع الشاب السعودي عن العمل فيها. وخذ مثلا قضية الإسكان، حيث تقوم الهيئة العامة للإسكان ووزارة الشؤون البلدية والقروية وبقية الأجهزة المختصة بالعمل على وضع الحلول لهذه القضية، في الوقت الذي تعاني خللا ثقافيا كبيرا يعم المجتمع في النظر إلى احتياجاته من المساكن، وتطلعاته التي لا تنسجم في كثير من الأحيان وقدراته وإمكاناته المادية. الأمثلة هنا عديدة، والمشكلة تتطلب جهدا مشتركا تقوده وزارة التخطيط لوضع خطة استراتيجية بعيدة المدى تضع بناء الإنسان والمجتمع هدفا أسمى، إذ إن بناء الإنسان أولى وأهم مكانة من بناء البنيان، وكل تلك المشروعات، على الرغم من أهميتها، لا تؤسس لحضارة ناجحة إن لم يكن العنصر البشري فيها محط الاهتمام والتنمية.
هذا المظهر في حقيقته لا يسم المجتمع السعودي دون غيره من المجتمعات العربية، بل إنه سمة مشتركة لكل توجهات التنمية في كل الدول العربية بشكل عام.
النموذج الذي يمكن الإشارة إليه بفخر واعتزاز هو النموذج العماني، فالتنمية في هذا البلد الخليجي ركزت منذ بداياتها على العنصر البشري، وخلقت مجتمعا طموحا متماسكا، شَكَّل اللبنة الأهم في مسيرة التنمية في ذلك البلد. كلنا يتذكر كيف كان سكان هذا البلد ضيوفا في المملكة وفي بقية دول الخليج قبل نحو 30 عاما أو يزيد، يقومون بالأعمال التي كان سكان تلك الدول يترفعون عن القيام بها، وها هم اليوم يقودون مسيرة التنمية في بلادهم بكل اقتدار، فتجد العماني يقوم بكل الأعمال عظيمها وحقيرها، وتجده سفيرا لبلاده يحمل كل الفخر أينما حل وأينما ذهب، تجده شريكا في التنمية لا متفرجا عليها. وأصبحت تلك الدولة نموذجا يحتذى في التنمية البشرية، إذ كانت التربية أساسا لتنمية الإنسان والمجتمع فيها، حتى إن تأخرت تنمية العمران والبناء فيها عن بقية دول الخليج.
عندما ننظر بعيدا في الطرف الآخر من العالم، نجد المجتمع الأمريكي مكونا في حقيقته من خليط من الأعراق والثقافات، ولكن التربية المجتمعية وبناء الإنسان كان أساسا لبناء حضارة أصبحت تقود العالم أجمع، انصهرت فيها كل تلك الأعراق والثقافات المتناحرة أساسا، وأصبحت خليطا ثقافيا موجها لخدمة تنمية متوازنة ومستدامة. والنموذج الأوروبي يعد مثالا أكثر حدة، فهذه الدول التي كانت حتى زمن قريب تتصارع في حروب عالمية جرت عليها الويلات، ولا يجمعها لا عرق ولا لغة ولا حتى دين، وها نحن نراها وقد اتسقت في اتحاد لا تجمعه إلا المصالح، وأصبحت قوة لا يستهان بها في الميزان الدولي.
خلاصة القول، التنمية التي تركز على بناء البنيان والحضارة الأسمنتية لن يكتب لها النجاح إن لم يكن بناء الإنسان ركيزتها الأساسية. والحقيقة أن بناء الإنسان هو الوسيلة الأنجع لنجاح جهود تنمية الحضارة بجوانبها المختلفة، فالإنسان هو عامل البناء، وهو من سيقوم بتنفيذ جهود ومشاريع البناء والتنمية، واستدامة التنمية تتطلب أن يقوم بها المواطن عوضا عن أن نستورد من يقوم بها من غير أبناء الوطن، ونحن بذلك في حقيقة الأمر نسهم في بناء الإنسان في تلك المجتمعات عوضا أن يكون الإنسان السعودي هو المستفيد من تلك الجهود.