الهاجس الأمني وحصار الذات

أخذتني إحدى رحلاتي المكوكية في الأسبوع الماضي إلى رحاب مدينة روما العتيقة. لست هنا بصدد الحديث عن روعة هذه المدينة وزخم الحضارة الجم الذي تحتويه بين جنباتها. ولكن حدثا مررت به كان الدافع لكتابة هذا المقال. كنت أتنزه في أحد شوارع تلك المدينة الجميلة، وحانت مني التفاتة إلى أحد المباني المميزة في ذلك الشارع، فأردت أن أعرف ما هو ذلك المبنى، وقرأت اللوحة المعلقة على سوره الذي كنت أسير بمحاذاته بشكل مباشر، وإذا به مبنى السفارة الأمريكية في روما. نظرت حولي أبحث عن مظاهر الحراسة الأمنية التي اعتدت أن أراها حول مثل هذا المبنى في بلادي، فلم أجد سوى قليل من الحرس داخل سور السفارة، وبعضا من كاميرات المراقبة المثبتة على سور المبنى. أثار هذا المظهر في نفسي كثيرا من الاستغراب، خاصة أن أحد حراس السفارة لوح لي بالتحية وقد رسم على وجهه ابتسامة عريضة. عدت بذاكرتي الذهنية إلى إنشاء مقارنة موضوعية بين هذا المظهر وما نشهده من مظاهر الحراسة الأمنية، ليس فقط حول مباني سفارات الدول العظمى، ولكن حول مختلف المنشآت العامة وكثير من المنشآت التجارية والخاصة في المملكة. عدت إلى الفندق مساء ذلك اليوم، وبدأت كتابة هذا المقال الذي سأناقش فيه قضية الهاجس الأمني في بلادنا وما نعيشه من جراء هذا الهاجس من حصار للذات.
أبدأ أولا بوصف المظهر الذي سيطر على ذاكرتي الذهنية، فمختلف المباني الحكومية دون استثناء تقريبا تحيط بها المتاريس ومظاهر الحراسة الأمنية وكاميرات المراقبة. والمظهر ذاته يحيط بكثير من المنشآت التجارية، بما فيها المراكز التجارية والمباني الفندقية ومراكز المؤتمرات، والمظهر ذاته أيضا نشهده في كثير من الشوارع، بما فيها مداخل حي السفارات، والشوارع المحيطة بمراكز تجمعات المباني الحكومية الحساسة، وحتى عدد من مراكز التفتيش على الطرق البرية بين المدن. والمظهر ذاته نشاهده حول بعض المباني السكنية الخاصة، والمجمعات السكنية في الأحياء، وخاصة التي يقطنها الأجانب من جنسيات محددة. حتى المباني المكتبية للشركات والمؤسسات الخاصة أصبحت تفرض إجراءات أمنية عشوائية، يتم فيها في كثير من الأحيان احتجاز وثائق إثبات الهوية لزوار تلك المباني دون وجه حق. هذه المظاهر كانت دوما موجودة وملاحظة في بعض المباني التي تحمل أهمية وحساسية خاصة، ولكن شيوع وتكاثر هذه المظاهر جاء في السنوات الأخيرة نتيجة للحوادث الإرهابية التي شهدتها المملكة. والحقيقة أن هذه المظاهر تحمل في طياتها وجهين من التأثير، فهي من جهة تشيع جوا من الطمأنينة إزاء الجهود الموجهة لتحري وتصيد أية محاولات إرهابية ممن قد تسول لهم أنفسهم الدنيئة مد أيدي الاعتداء إلى مقدرات البلد، ولكنها في المقابل تشيع جوا من الخوف وفقدان الثقة لدى كل المواطنين، وتنشر إحساسا من فقدان الأمن الذي تعبر عنه الحاجة إلى مثل هذه الإجراءات الأمنية المبالغ فيها في كثير من الأحيان.
عندما تولى الأمير خالد الفيصل إمارة منطقة مكة المكرمة كان أحد أوائل القرارات التي اتخذها هو إزالة مظاهر الحراسة الأمنية المبالغ فيها من محيط ومداخل مقر الإمارة في مدينة جدة. هذا القرار عبر عن رؤية ثاقبة لدى سموه لبذر مشاعر الثقة بين الإمارة والمواطنين، دون أن يؤدي ذلك إلى الإخلال بأمن الإمارة في الحدود المعتادة. توقعت حينها أن كثيرا من الجهات في تلك المدينة وغيرها من مدن المملكة، وخاصة التجارية والفندقية منها، سوف تقتدي بمبادرة الأمير، وتخفف من مظاهر الحراسة الأمنية حول منشآتها، ولكن ذلك لم يحصل، وما زالت تلك المظاهر على ما هي عليه. المشكلة هنا هي فعالية كثير من تلك الإجراءات، فكم لاحظنا أن حارس الأمن يدور حول السيارة أثناء تفتيشها وهو يتلفت يمنة ويسرة دون تركيز، وكم تساءلنا عن جدوى إلزام كل صاحب سيارة بفتح غطاء محركها ليلقي عليها ذلك الحارس نظرة عابرة لا يمكن لها أن تكتشف مصدر الخطر ـــ إن وجد ـــ وكم شعرنا بالامتعاض من تكدس السيارات أمام لجان التفتيش على الطرق، وهي تتسبب في تعطيل الحركة ومصالح الناس، حتى وإن كان منهم من يريد اللحاق بموعد إقلاع طائرته، أو إيصال مريض إلى المستشفى. المشكلة الأخرى أن كثيرا من تلك الإجراءات قد يتسبب في تعطيل الاستفادة من كثير من المرافق والمنشآت، وحرمان الناس من التمتع باستثمارات بذلت فيها الدولة مبالغ طائلة. أبسط مثال على ذلك الحدائق العامة في حي السفارات في مدينة الرياض، التي يبلغ عددها 17 حديقة من أجمل الحدائق، ولا يستطيع أحد من سكان المدينة ارتيادها في ظل الحماية الأمنية التي تحيط بالحي، وتمنع دخوله لمن ليس لهم شأن يتعلق بأي من السفارات أو المنشآت الوظيفية التي يضمها الحي. وكذلك مواقف السيارات التي يضمها كثير من المباني الحكومية والتجارية، وتم تعطيل استخدامها خوفا من تعرض تلك المباني لخطر إرهابي محتمل، في الوقت الذي يعاني فيه رواد تلك المباني لإيجاد مواقف لسياراتهم في الشوارع المحيطة المزدحمة.
لست هنا أدعو إلى التنازل عن الحذر، أو التساهل في التعامل مع أية احتمالات لمخاطر قد تحدق بمقدرات بلادنا، ولكنني أدعو فقط إلى تقنين وتنظيم هذه الممارسات، لزيادة فعاليتها وكفاءتها من جهة، ومعالجة الآثار النفسية التي تنشأ عنها من جهة أخرى. كنت في الآونة الأخيرة قد شاركت في عدد من التجارب لتصميم بعض المشروعات، ومنها عدد من مشروعات المباني الفندقية. ما لاحظته في تلك التجارب هو مقدار التدخل الذي يفرضه ويمارسه مستشارو الأمن أثناء تصميم تلك المباني، بهدف فرض عديد من الإجراءات الأمنية التي لا تخلو من مبالغة. أثارت تلك التجارب في نفسي تساؤلات عن مصالح تلك الكيانات والشركات الأمنية، التي كنت أرى أنها تسعى لفرض هذا الإحساس بالخوف لدى ملاك تلك المنشآت لتحقيق مصالح مادية كبيرة من توظيف تلك الشركات لأداء تلك المهام الأمنية المفتعلة. ومن هنا تأتي المشكلة، فمعظم هذه المظاهر الأمنية جاء نتيجة لفرض إحساس مفتعل بالخوف والخطر، في الوقت الذي لا تحتاج معظم تلك المواقع لهذا الكم من الإجراءات الأمنية.
خلاصة القول، هذه المظاهر بالرغم من أهميتها في بعض الأحيان والمواقع، توقع كثيرا من الآثار السلبية في كثير من الأحيان والمواقع. وفي رأيي، أنها تؤصل لشكل من أشكال الانتصار لظاهرة الإرهاب عبر زرع بذور الشك وفقدان الثقة بين أبناء الوطن الواحد. والحاجة إلى تقنين وتنظيم هذه الممارسات أصبحت حاجة ملحة، لتحقيق الفعالية المأمولة منها من جهة، وتفادي الهدر المادي والبشري الذي تحدثه من جهة أخرى. وفي النتيجة، نريد لبلادنا أن تشيع فيها مظاهر الأمن والثقة بين الناس، لا أن تكون ملأى بالحواجز والمتاريس في شكل من أشكال حصار الذات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي