المؤمن الصادق .. أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية

يعرض هذا الكتاب الخصائص التي تشترك فيها الحركات الجماهيرية، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو قومية، برغم الاختلافات فيما بينها، فالحركات الجماهيرية تولد في نفوس أتباعها استعدادا للموت وانحيازا للعمل الجماعي، وجميعها تولد الحماسة والأمل للكراهية وعدم التسامح، وجميعها قادرة على تفجير طاقات قوية من الحراك في بعض مناحي الحياة، وجميعها تتطلب من أتباعها الإيمان الأعمى والولاء المطلق، وجميعها تستقطب أتباعها من النماذج البشرية نفسها، وتستميل الأنماط والعقول نفسها.
فالتطرف واحد وذو طبيعة واحدة سواء كان تطرفا دينيا أو قوميا أو أيديولوجيا، وتتشابه الحركات الجماهيرية أيضا في إخلاصها وإيمانها وسعيها إلى السلطة، وفي وحدتها واستعدادها للتضحية.
ويفترض الكتاب أن الإحباط في حد ذاته يكفي لتوليد معظم خصائص "المؤمن الصادق" وهي عبارة تعني هنا حسب الكتاب "المنخرط في حركة جماهيرية بإخلاص وإيمان مطلق مهما كانت طبيعة هذه الحركة"، وأن الأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساسا على تشجيع النزعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط.

جاذبية الحركات الجماهيرية

الرغبة في التغيير
يقول المؤلف إن الذين ينضمون إلى حركة ثورية صاعدة أو حركة دينية أو قومية متطرفة يتطلعون إلى تغيير مفاجئ كبير في أوضاعهم المعيشية، فجميعها حركات من وسائل التغيير، وعندما تتقدم فرص تطوير الذات، أو لا يسمح لها بالعمل كقوة محفزة يصبح من الضروري إيجاد مصادر بديلة للحماسة، وهنا تكون الحركات الجماهيرية (دينية أو ثورية أو قومية) عاملا لتوليد الحماسة العامة.
ويرى أنه تكمن فينا جميعا نزعة إلى البحث خارج أنفسنا عن العوامل التي تصوغ حياتنا، حتى عندما يكون وضعنا نتيجة عوامل داخلية، كقدرتنا أو شخصيتنا أو مظهرنا أو صحتنا. يقول الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817 ـــ 1862): "عندما يشكو المرء شيئا يحول بينه وبين القيام بواجباته حتى عندما يكون ألما في أمعائه .. فإنه يبادر إلى محاولة إصلاح العالم".
وقد يبدو مفهوما في رأي المؤلف أن الفاشلين ينزعون إلى تحميل العالم جريرة فشلهم، ولكنه يلاحظ أيضا أن الناجحين أيضا يؤمنون بأن نجاحهم جاء بسبب الحظ السعيد، ذلك أنهم ليسوا متأكدين من معرفتهم بأسباب نجاحهم.
فالعالم الخارجي يبدو مثل آلة تدور على نحو يستحيل ضبطه أو توقعه، وما دامت هذه الآلة تدور في مصلتحهم فإنهم يتجنبون العبث بها، وهكذا فإن الرغبة في التغيير والرغبة في مقاومة التغيير تنبعان من المصدر نفسه: الإيمان بتأثير العوامل الخارجية.
ويستدرك هوفر بأن عدم الرضا في حد ذاته لا يخلق دافعا للرغبة في التغيير، ولكن يجب أن تتضافر معه عوامل أخرى، وأحد هذه العوامل هو الإحساس بالقوة، فالذين يخافون من محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائسا. ويقول إن الناس يقاومون شعورهم بالخوف بإخضاع وجودهم لروتين ثابت، موهمين أنفسهم بأنهم بهذه الوسيلة يتجنبون المفاجآت، وهكذا نجد الصيادين والبدو الرحل والمزارعين الذي يعتمدون على تقلبات الطقس والفنانين الذين ينتظرون الإلهام يخافون من التغيير، ويواجهون العالم كما يواجهون قضاة يتحكمون في مصيرهم، ونجد عند الفقراء نزعة محافظة بعمق النزعة المحافظة عند الأغنياء. وأما الأشخاص الذين يندفعون لإحداث تغييرات واسعة فإنهم يشعرون بأنهم يملكون قوة لا تقهر.
وامتلاك القوة لا يكفي للتغيير، ولكن لا بد من الإيمان المطلق بالمستقبل، وعندما يغيب هذا الإيمان تصبح القوة داعمة للأوضاع القائمة ومناهضة للتغيير، فالراغبون في التغيير يوقدون الآمال الجامحة.
فالذين يشعرون بالتذمر من غير أن يكونوا فقراء فقرا مدقعا وأن يكون لديهم شعور باقتناعهم العقيدة الصحيحة أو اتباع الزعيم الملهم أو اعتناق أساليب جديدة في العمل الثوري سيصبحون قوة لا تقهر، ويجب أن تكون لديهم تطلعات جامحة إلى المنجزات التي ستأتي مع المستقبل، وفي النهاية يجب أن يكونوا جاهلين جهلا تاما للعقبات التي ستعترض طريقهم، أما المجربون وذوو الخبرة فيأتي دورهم في مرحلة لاحقة، ولا ينضم هؤلاء إلى الحركة إلا بعد التحقق من نجاحها، ولعل خبرة المواطنين الإنجليز السياسية هي التي تجعلهم بمنأى عن الحركات الثورية.

الرغبة في بدائل

يلاحظ المؤلف إيريك هوفر أنه يصعب على الذين يعتقدون أن حياتهم فسدت أن يستهويهم تطوير أنفسهم مهما كان احتمال حصولهم على فرص أفضل، فلا شيء ينطلق من النفس التي يكرهونها يمكن أن يكون جيدا أو نبيلا، وشوقهم العميق إلى حياة جديدة، ومعنى جديد لقيم الحياة لا يتحقق إلا بانتماء إلى قضية "مقدسة" (من وجهة نظر أصحابها بالطبع)، والتماهي مع جهود الحركة ومنجزاتها ومستقبلها يمنحهم الشعور بالكرامة والثقة.
وتعتمد قوة الحركة الجماهيرية وحيويتها على قدرتها على تلبية رغبة أتباعها في محو الذات، وعندما تبدأ حركة جماهيرية في اجتذاب أناس لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية فمعنى هذا أنها لم تعد معنية بإيجاد عالم جديد، بل بالحفاظ على الأوضاع الراهنة وحمايتها. يقول قائد إحدى الحركات الجماهيرية المتطرفة: "كلما زادت الوظائف والمناصب التي تقدمها الحركة؛ انخفض مستوى الأتباع الذين ينضمون إليها، وعندما يحدث هذا تكون قد انتهت".
إن الإيمان بقضية "مقدسة" هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا، وكلما استحال على الإنسان أن يدعي التفوق لنفسه كان أسهل عليه أن يدعي التفوق لأمته أو دينه أو عرقه أو قضيته المقدسة، وينزع الناس إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة عندما تكون جديرة بالاهتمام، وعندما لا يكون لديهم شأن خاص حقيقي يهتمون بشؤون الآخرين الخاصة، ويعبرون عن اهتمامهم هذا بالغيبة والتجسس والفضول.
والاعتقاد بالواجب المقدس تجاه الآخرين كثيرا ما يكون طوق النجاة لإنقاذ الذات من الغرق، وعندما نمد يدنا نحو الآخرين فنحن في حقيقة الأمر نبحث عن يد تنتشلنا، وعندما تشغلنا واجباتنا المقدسة نهمل حياتنا ونتركها خاوية بلا معنى، وما يجذب الناس إلى حركة جماهيرية هو أنها تقدم بديلا للأمل الفردي الخائب، والعاطلون ينزعون إلى اتباع الذين يبيعونهم الأمل قبل اتباع الذين يقدمون لهم العون، فالأمل هو السبيل الوحيد لإدخال القناعة والرضا لدى المحبطين.

التبادلية بين الحركات الجماهيرية

عندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية فإنهم في اعتقاد المؤلف يصبحون عادة جاهزين للالتحاق بأية حركة فاعلة، ويبدو من السهل على الحركات الجماهيرية أن تستقطب أتباع حركات أخرى تبدو مختلفة عنها أو متناقضة معها، فاليساريون المتطرفون يتحولون إلى يمينيين متطرفين، والعكس صحيح. فجميع الحركات الجماهيرية متنافسة فيما بينها، ومغنم واحدة منها لا بد أن يكون مغرم الأخرى، وبوسع الحركة أن تحول نفسها بسهولة إلى حركة أخرى، فيمكن للحركة الدينية أن تتحول إلى ثورة اجتماعية أو حركة قومية، كما أنه يمكن للحركة الثورية الاجتماعية أن تتحول إلى قومية متطرفة أو إلى حركة دينية، ويمكن للحركة القومية أن تتحول إلى ثورة اجتماعية أو إلى حركة دينية.
وكانت هجرة اليهود القدماء من مصر ثورة عبيد وحركة دينية وحركة قومية في آن معا، وكانت القومية اليابانية المتطرفة ذات طابع ديني، وكان لحركات الإصلاح البروتستانتي جانب ثوري عبر عن نفسه في حركات تمرد الفلاحين، وكان لها أيضا جانب قومي، وتمثل الصهيونية حركة قومية وثورة اجتماعية وحركة دينية أيضا.
وكثيرا ما يكون السبيل إلى إيقاف حركة جماهيرية هو إيجاد حركة بديلة، أو الهجرة، فثمة شبه كبير بين أتباع الحركات الجماهيرية والراغبين في الهجرة، وهكذا هاجرت الجماعات البروتستانتية من أوروبا إلى القارة الأمريكية.

الأتباع المتوقعون

يحدد المؤلف هنا وفق القواعد السابقة فئات الأتباع المتوقعين للحركات الجماهيرية، وهي حسب ملاحظته تقوم على عواتق المتذمرين والمنبوذين، وعلى الرغم من أن هؤلاء يوجدون في كل مجالات الحياة إلا أنهم يوجدون بكثرة في المجالات التالية: الفقراء، والعاجزون عن التأقلم، والمنبوذون، والأقليات، والمراهقون، وشديدو الطموح، والواقعون تحت تأثير رذيلة، والعاجزون جسديا أو عقليا، والمفرطون في الأنانية، والملولون، ومرتكبو المعاصي.
ويختص المؤلف الفقراء من بين هذه الفئات الإحدى عشرة بأفكار وملاحظات كثيرة، فيوضح أن الفقر وحده لا يكفي لتشكيل الإحباط المؤدي للانضمام إلى الحركات الجماهيرية، ولكن محدثو الفقر الذين أضاعوا مكتسباتهم هم الذين يسارعون إلى الالتحاق بأية حركة جماهيرية صاعدة، أي الفقر المؤدي إلى التذمر والإحباط وليس كل فقر، ولكن الفقر الناشئ عن فقدان المكاسب، أو الفقراء المتطلعين إلى الوعود! فهناك أمل يشجع على الصبر، وأمل يشجع على الثورة "وعندما نحلم بما لا نرى يكون بوسعنا أن نصبر في انتظار الحقيقة".
وإذا اجتمعت الحرية مع الإحباط تشكلت أكثر البيئات صلاحية لنمو الحركات الجماهيرية. يقول أرنيست رينان: "المتطرفون يخافون الحرية أكثر من الاضطهاد"، وسبب الثورة في مجتمع ديكتاتوري هو تفكك الديكتاتورية وليس الطغيان.
وأما الفقراء المنتمون إلى مجموعة مترابطة (قبيلة أو عائلة أو فئة عرقية أو دينية) فلا يشعرون بالإحباط، ولا برغبة في الانضمام إلى حركة جماهيرية، فالمرشح الأمثل للجماعات الجماهيرية هو الفرد الذي يقف وحيدا من دون جماعة متماسكة، ذلك أن ثمة تناقضا بين الترابط الأسري والحركات الجماهيرية.
وبذلك فإن الترابط الاجتماعي يساعد على منع التمرد، وحتى عندما يكون التضامن ذا طبيعة لا تسمح بإدخال رب العمل في دائرته فإنه يقود إلى تعزيز الشعور بالرضا بين العمال وزيادة فاعليتهم وإنتاجهم.
والحركات الجماهيرية تنجح بمقدار قوتها التنظيمية وتماسكها أكثر مما تنجح بفعل أيديولوجيتها ووعودها، وعندما يضعف نمط اجتماعي سائد/كان سائدا تصبح الظروف مواتية لصعود حركة جماهيرية ونجاحها في إيجاد تنظيم جماعي أشد تماسكا وقوة من التنظيم المنهار.

العمل الجماعي والتضحية بالنفس

يناقش المؤلف في هذا الجزء من الكتاب كيف تستمد الحركة الجماهيرية حيويتها من نزعة أتباعها إلى العمل الجماعي والتضحية بالنفس، وأما الأيديولوجيا والدعاية فهما في رأيه ليسا إلا أداتين تقودان إلى العمل الجماعي والتضحية، ويقتضي ذلك الإنقاص من قيمة النفس، والتخلي عن الخصوصية والآراء الشخصية، لدرجة أن يتحول عضو الحركة إلى منبوذ وكيان هش إذا خرج منها.
ويقرر المؤلف أن المحبطين تنمو لديهم على نحو عفوي الرغبة في العمل الجماعي، وفي الوقت نفسه في التضحية بالنفس، وهكذا فإنه من الممكن تفهم النزعات والأساليب التي تتبع لغسل الأدمغة إذا راقبنا كيف تولد داخل العقل المحبط، فاحتقار الحاضر، والقدرة على تخيل أشياء غير واقعية، والنزعة إلى الكراهية، والاستعداد للتقليد، وسرعة التصديق، والاستعداد لتجربة المستحيل، كل هذه المشاعر وكثير غيرها، تزحم عقل الإنسان المحبط، وتدفعه إلى الأعمال اليائسة.
ويرى المؤلف أن الحركة الجماهيرية عندما تجتذب غير محبطين، فهذا يعني على نحو قاطع أنها تشهد تغييرا كبيرا، وأنها تتأقلم مع الوضع الراهن، ويزيد الإقبال عليها في تحويلها إلى مشروع مؤسسي، ولكن في رأي قادة التطرف فإن الحركة إذا خضعت لأفراد يريدون الاستفادة من الحاضر فإن مهمتها تنتهي.
ولا تنبع فاعلية الأيديولوجيا من مضمونها كما يلاحظ هوفر، ولكن من عصمتها عن الخطأ. يقول بيرجسون: "لا تتجلى قوة الأيديولوجيا في القدرة على تحريك الجبال، ولكن في القدرة على عدم رؤيتها وهي تتحرك". وعندما تصبح الأيديولوجيا مفهومة تفقد كثيرا من قوتها، وينزع الأيديولوجي إلى استخدام الكلمات كما لو كان يجهل معناها الحقيقي، ومن هنا يجيء شغفه بالنقاش البيزنطي والجدال العقيم.
إن امتزاج سهولة التصديق بالكذب ليس من خصائص الأطفال وحدهم، ولكن انعدام القدرة على رؤية الأشياء على حقيقتها يقود إلى السذاجة وإلى الكذب في الوقت نفسه.
يؤمن المتطرف بفكرة أو قضية لا بسبب عدالتها أو سموها، ولكن لحاجته الملحة إلى شيء يتمسك به، ويعتبر المتطرف أية قضية يعتنقها قضية مقدسة، ولا يمكن إبعاده عن قضيته بالمنطق والنقاش، ولا يجد صعوبة في القفز بقوة من قضية مقدسة إلى قضية مقدسة أخرى (كل القضايا التي يؤمن بها مقدسة) فالروابط التي تجمع بين الرجعي والراديكالي أكثر من الروابط التي تجمع أيا منهما بالليبرالي أو المحافظ، ونقيض المتدين المتعصب ليس الملحد المتعصب، ونقيض المتطرف الوطني ليس الخائن. يقول أرنست رينان: "عندما يكف العالم عن الإيمان بالله فإن الملحدين سيكونون أشد الناس تعاسة".
والحركات الجماهيرية تحطم بإثارة المشاعر الملتهبة التوازن النفسي الداخلي، وتضمن اغترابا دائما عن النفس، فأي وجود مستقل هو في نظر هذه الحركات هو وجود عقيم لا معنى له، والإنسان بمفرده بائس وملوث وعديم الحيلة، ولا يمكن للإنسان الخلاص إلا برفض نفسه والعثور على حياة جديدة في أحضان كيان جماعي مقدس (جماعة أو أمة)، وازدراء النفس هذا يولد مشاعر تظل في حالة اشتعال دائم.
ولا يستطيع المتطرف أن يستمد الثقة من قدراته الذاتية أو من نفسه التي تنكر لها، ولكنه يجد الثقة بالتصاقه المتشنج بالكيان الذي احتضنه، ويعتنق المتطرف قضية ما، ليس بسبب عدالتها أو سموها، ولكن لحاجته الملحة لشيء يتمسك به، ومن المستبعد أن يستطيع المتطرف الذي هجر قضيته أو الذي وجد نفسه فجأة بلا قضية أن يتأقلم مع وجود فردي مستقل، الأغلب أنه سيبحث عن قضية أخرى، شأنه شأن المسافر المفلس الذي ينتظر مرور سيارة تحمله مجانا.
ومن أهم العوامل التي تشجع على التجمع المتطرف "الكراهية" وهي أكثر العوامل الموحدة شمولا ووضوحا، فالكراهية الجماعية تستطيع أن توحد العناصر المتنافرة، بل إن هذه الكراهية يمكن أن توجد رابطا مشتركا مع عدو على نحو ينخر قواه ويضعف مقاومته، والكراهية تعبير عن إخفاء الشعور بالنقص أو قلة الأهمية، أو الذنب أو العيوب الأخرى، كثيرا ما يحدث عندما يظلمنا شخص أن تتحول كراهيتنا إلى شخص آخر أو جماعة أخرى لا علاقة لها بالأمر. وتتبنى الحركة الجماهيرية أهدافا مستحيلة وغير واقعية، تتمشى مع رغبات المحبطين، ويشعر المحبط بالرضا عن الوسائل العنيفة التي تتبعها الحركة الجماهيرية أكثر من شعوره بالرضا عن أهداف الحركة، إن التطلع إلى الشيء لا امتلاكه بالفعل هو الذي يؤدي إلى التضحية بالنفس، فالأحلام والرؤى والآمال الجامحة أسلحة وأدوات فاعلة.
ولا تقاس فاعلية أيديولوجيا بعمقها أو سموها أو صدق الحقائق التي تنطوي عليها، بل بقدرتها على حجب الشخص عن نفسه وعن العالم كما هو عليه بالفعل. يقول باسكال: "الأيديولوجيا الفاعلة لا بد أن تعارض الطبيعة والمنطق والرغبة".
وعندما تبدأ حركة في عقلنة أيديولوجيتها وجعلها مفهومة، فمعنى هذا أن فترتها الديناميكية قد انتهت، وأنها أصبحت حريصة على الاستقرار، والاستقرار يحتاج إلى استقطاب المثقفين وكسب ولائهم، فتبتعد عن تحريض الجماهير على التضحية بالنفس، ومن هذا الحرص يجيء الحرص على شرح الأيديولوجيا وعقلنتها. وأخيرا يتوقع المؤلف أن القارئ لن يقتنع بكثير من أفكار الكتاب، وقد يشعر بأن بعض الأشياء بولغ في تضخيمها، بينما أهملت أشياء أخرى، ولكنه يرد بأنه لا يدعي أن كتابه أكاديمي موثق، على العكس فإن الكتاب يحتوي على أفكار، مجرد أفكار، ولا يرفض "أنصاف الحقائق" إذا كانت تحتوي على منهج جديد، وتساعد على توليد أسئلة جديدة، ويستشهد بمقولة السياسي والإعلامي والتر بيجهوت (1826 ـــ 1887) "إذا أردت إيضاح مبدأ ما فعليك بكثير من المبالغة وكثير من الحذف".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي