جسور الشيخ سلمان العودة

لا أتذكر بالدقة تاريخ أول مرة استمعت فيها للشيخ سلمان العودة مباشرة, فقبل أكثر من 20 عاما، وفي مسجد صغير وفي مدينة أمريكية صغيرة تحتضن جامعة كبيرة وعريقة وعلى مقربة من كلية الأديان في الجامعة والتي كان ينتصب في مدخلها تمثال ضخم للنبي موسى, كنا على موعد مع حديث للشيخ سلمان بعد صلاة العشاء. كان معظم الحضور من الطلاب ومن جنسيات مختلفة، وكان هناك إعجاب واضح بلغة وأسلوب خطاب الشيخ سلمان, فأحد الحضور وهو كان ممن يحضرون الدكتوراه في التربية وكان يجلس بجانبي همس في ذهني بعد المحاضرة وأثناء فترة الأسئلة قائلا, إنه ولأول مرة يستمع إلى شيخ أو رجل دين يتكلم بوضوح وتواضع وخطاب فيه احترام لعقول المخاطبين. فأنا, وهذا قولي, لا أمل من تكرار إعجابي بشخصية الشيخ سلمان العودة وبطريقة عرضه ودفاعه عن الأفكار والقناعات التي يؤمن بها على الرغم من أن اختلافي معه حول بعض الأفكار والآراء التي يطرحها يزداد ولم تنقص لأن إعجابي به له علاقة بعمق ما يطرح وله صلة بأسلوبه ومنهجيته في التواصل مع الآخرين, فهو لا يريد أن يجعل من الآخرين نسخة مطابقة لأفكاره وقناعاته بقدر ما يريد أن يستثير فيهم الرغبة في التفكير والتعمق في فهم الأشياء. فالشيخ سلمان العودة في برامجه التلفزيونية قد استطاع أن يغير من الصورة النمطية لرجل الدين, فهو يطل علينا في هذه البرامج باعتباره رجلا مثقفا أكثر مما هو رجل دين, والمجتمع فعلا في حاجة إلى رجل الدين المثقف لأن إصلاح ثقافة المجتمع ضرورة لإصلاح أمور المجتمع كلها ومنها الجانب الديني. فعندما تختل ثقافة المجتمع ينعكس هذا على وضع المجتمع، وبما أن مجتمعنا هو مجتمع متدين فإن الثقافة المختلة تنتج لنا تديننا مشوها، وهذا التشوه ليس له علاقة بالدين بقدر ما له علاقة بثقافتنا، وبالتالي فالإصلاح الثقافي هو ضرورة دينية بقدر ما هو ضرورة حياتية.
فبرنامج الحياة كلمة هو برنامج ثقافي، وإن كان بلباس ديني في الشكل والمظهر باعتبار أن ضيف البرنامج الدائم هو رجل الدين الشيخ سلمان العودة. إن أكثر المنتفعين بهذا البرنامج هم من الناس المتدينين العاديين الذين هم في حاجة إلى ثقافة حياتية عامة ترشد من تدينهم وتحفظهم من تعدي الآخرين عليهم في حقوقهم المعنوية وبالأخص في عدم استدراجهم إلى الإيمان أو الاعتقاد بالأوهام والخرافات والأساطير والأفكار المسطحة تحت مسميات دينية، وما أكثر مثل هذه الأفكار التي يبتلى بها المتدين البسيط. وفي كل مرة أستمع إلى حديث الشيخ سلمان العودة أجد نفسي وأنا أنتظر وأترقب للنقطة المهمة والمحورية في حديثه, فالشيخ وإن أتى بمقدمات وتعاريف القصد منها إيضاح لبعض الأمور والنقاط التي يريد بها أن يمهد للموضوع، وأن تساعده في الانتقال بالمستمع وبرفق إلى أصل الموضوع إلا أني أبقى منشدا ومترقبا لهذه النقطة الجوهرية في الموضوع، وأكاد في بعض الأحيان أدخل في مراهنات مع نفسي حول طبيعة النقطة التي يريد الشيخ أن يقف عندها ويناقشها. فأنا من الذين يؤمنون بقانون العالم الإيطالي بريتو, فهذا العالم يعتقد أن في كل شيء هناك جزءا أو مكونا قد لا يمثل إلا 20 في المائة من الكل وزنا أو حجما أو تكلفة إلا أنه يمثل ما يقارب من 80 في المائة من القيمة الكلية له, فالنقطة الجوهرية في حديث الشيخ وألا تأخذ منه إلا دقائق معدودة ونسبة بسيطة من مجموع الحديث إلا أن قيمتها فعلا تعادل 80 في المائة أو أكثر من قيمة الحديث الكلية. فهذه النقطة أو الجانب من الموضوع هي فعلا اللحمة التي أبحث عنها في حديث الشيخ كما يقول ذلك الإعلان الأمريكي "أين اللحمة" والذي اشتهر في الثمانينيات من القرن الماضي في أثناء الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
في الحلقة الأخيرة من برنامج الحياة كلمة والتي كان عنوانها "جسور" كان الظاهر على الموضوع منذ بداية البرنامج أنه يخبئ في داخله نقطة وعنصرا في غاية الأهمية, كانت البداية وكالعادة تنظيرية لمصطلح الجسور, فالتجسير هو بناء جسور عبور لملاقاة الآخر والتواصل معه، وهذا خير تأسيس للنقطة المراد الوصول إليها وإن كنت أنتظر البوح عنها بسرعة وبشكل واضح وجلي, وما إن سمعت الشيخ سلمان وهو يقول وينطق بفكرة الجسر الإنساني ويؤكد على أهمية هذا النوع من الجسور حتى وقفت واقتربت من شاشة التلفزيون، وأنا أردد كما فعل العالم المشهور أرخميدس, وجدتها .... وجدتها ... وجدتها, نعم ما نريده فعلا هو ثقافة الجسر الإنساني لأننا عندما نربح إنسانيتنا سنربح الدنيا من دون أن نخسر الآخرة.
ودعونا الآن نتكلم ونتحاور مع الشيخ بشكل منطقي وعلى أساس علمي, فبناء الجسور بالمطلق يتطلب أولا تصميم وهندسة للتأكد من أن الجسر سيبنى وفق المتطلبات الفنية والعلمية, ومن ثم تأتي مرحلة البناء والتي هي الأخرى مهمة لأنها تتطلب مهارات في تنفيذ ما هو مصمم, وعندما تبنى هذه الجسور لا يتحقق الغرض منها إذا لم يستخدمها الناس ويتم فعلا العبور من خلالها, ولا تنتهي المهمة عند هذا الحد لأنه لابد من الحفاظ على هذه الجسور وصيانتها وتجديدها لتبقى تؤدي وظيفتها وأحسن. في اعتقادي أن الشيخ سلمان العودة يمتلك المكانة الشرعية والدراية الثقافية لأن يكون من مهندسي هذا الجسر الإنساني, لا بل يمتد دوره حتى إلى مرحلة البناء والتشييد.
ليس عندي من المساحة ما يمكنني في أن أستفيض في الحديث عن هندسة الجسر الإنساني من الهندسة إلى البناء والتشييد ومن ثم إلى الصيانة والتجديد لكنني سأكتفي في ذكر بعض النقاط وبشكل موجز عن هندسة هذا الجسر الإنساني الذي نحن فعلا في حاجة إليه لمواجهة الكثير من التحديات التي تضغط علينا بشدة:
1- هندسة فكرية: لا يمكن أن نبني جسورا إنسانية من غير أساس فكري وهندسة معرفية تتمحور حول كرامة الإنسان كمخلوق منحته السماء هذه الكرامة والمرتبة السامية. فمن حق أي إنسان أن تحفظ له كرامته، وأن تعطى له حقوقه الإنسانية حتى وإن كانت له آراء واجتهادات وقناعات مخالفة للآخرين, فالاختلاف في الرأي والاجتهاد لا يعطي الحق للمختلفين في التعدي على حقوق بعضهم, فالاختلاف في الرأي والفكر هو مكون طبيعي في جسد الفكر نفسه, واقتلاع هذا المكون هو مخاطرة بموت الفكر نفسه. فبناء الجسور الإنسانية التي تتيح لنا الالتقاء مع المختلف هو في الحقيقة تأسيس لبنية تحتية لبناء الفكر الشامخ والسليم, وانعدام هذه الجسور معناه تولد فكر هادم وظلامي ينشغل في كيفية تحطيم وهزيمة الآخرين. فعدم وجود الجسور الإنسانية من الداخل إلى الداخل ومن الداخل إلى الخارج يتحول بالفكر إلى بحيرات راكدة وآسنة لا تعيش فيها إلا الحشرات الضارة والناقلة للأمراض.
2- هندسة ثقافية: الفكر وحده لا يقدر أن يقيم هذه الجسور الإنسانية إن لم تكن هناك ثقافة إنسانية تحمي هذا الفكر وتسمح له بالدخول إلى الواقع وتغييره, فالفكر ينظر ويؤسس للتغيير، ولكن الثقافة هي التي تتكفل فعلا بالتغيير من خلال ما تتبناه من قيم ومبادئ ومثل. فقيم مثل الانفتاح والتسامح والقبول بالآخر والرغبة في الحوار كلها أعمدة ثقافية لبناء وتشييد لهذه الجسور الإنسانية. إننا من حقنا كمجتمعات إسلامية أن نطالب كل الفاعلين في مجتمعاتنا من علماء ورجال دين وأهل فكر أن ينتجوا لنا ثقافة تحمل مثل هذه القيم حتى يتسنى لنا أن نهزم هذه الثقافة والتدين الطائفي والمذهبي الذي يفتك اليوم بمجتمعاتنا الإسلامية, ألا يكفي ما يحدث من قتل طائفي ومذهبي في باكستان والعراق في المساجد ودور العبادة أثناء الصلاة وفي الأسواق ليستنهض همم هؤلاء الفاعلين ومنهم وفي مقدمتهم الشيخ سلمان لمواجهة هذه الثقافة الطائفية البغيضة. لن يستحق كل هؤلاء الفاعلين على قدرهم وعلو مقامهم منا أن نسميهم مفكرين أو علماء فعلا ما لم تكن عندهم الجرأة والشجاعة لمواجهة ثقافتنا بأنفسهم, فالهروب من الأسئلة الصعبة لن يزيد الأمر إلا سوءا, هل نريد أن نخسر ثلث أو نصف المسلمين في الاقتتال الطائفي كما حدث في الاقتتال الطائفي في ألمانيا قبل خمسة قرون حتى نحس فعلا بفداحة التدين الطائفي والثقافة المنغلقة دينيا ومذهبيا. إننا في حاجة إلى ممارسة المواجهة مع ثقافتنا بأنفسنا, مواجهة الذات مع الذات, لنقتلع منها كل تلك اليقينيات التي ترسخت في نفوسنا والتي تمنعنا من أن يكون لنا جسور إنسانية مع الآخرين ونحن ندين بدين جاء ليبشر بالعزة والكرامة لكل إنسان.
3- هندسة نفسية: إن من أهم وظائف الجسور هو تجاوز العقبات، ومن أشد العقبات والعوائق في طريق التواصل الإنساني هي العقبات النفسية. فالتاريخ والانسداد الفكري والانغلاق الثقافي والتراجع الأخلاقي والتدهور الحضاري كلها شاركت في إنتاج جبال شاهقة وبناء جدران عالية من الحواجز النفسية في داخل المجتمعات الإسلامية نفسها. لن يتمكن الإنسان العادي بل لا يجرأ على التفكير في هدم هذه الجدران النفسية العالية وبناء جسور من التواصل الإنساني مكانها ما لم يتقدمهم من هم الأكثر قدرة منهم وهم العلماء وأصحاب الفكر. فالعمل على إزالة الحواجز النفسية هي مهمة ملقاة على عواتق العلماء وأهل الفكر ورجال الدين، وعدم مبادرتهم للقيام بهذه المهمة يحملهم مسؤولية ما ينتج عن بقائها من ظلم وويلات.
في الختام, إن ما دعا إليه الشيخ سلمان العودة من ضرورة إقامة الجسر الإنساني في تواصلنا مع الآخرين هو في الحقيقة وضع الإصبع على أهم مشكلة يعانيها المجتمع الإسلامي في الوقت الحاضر. فالناس العاديون في المجتمعات الإسلامية قد ملوا الانتظار وهم يرون كيف وصلت الأمور إلى مرحلة العبث واللامعقول, فهم يريدون فعلا فهما جديدا وإنسانيا لدينهم غير الطريقة الطائفية القديمة التي جردتنا من إنسانيتنا وجعلتنا نعيش في حلقة جهنمية من الكراهية والحقد والحقد المضاد. فشكرا لك يا شيخ سلمان، وكما أن الحياة كلمة فإن الحياة أيضا موقف ومبادرة .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي