أمن الخليج العربي.. صدام الأدوار والاستراتيجيات الإقليمية
المتابع لما يجري في السنوات الأخيرة، لا يمكنه تجاهل أن ثمة تغيرات استراتيجية كثيرة بدأت تطل برأسها، وهي تغيرات سيكون لها أثر قادم على موازين القوى في الخليج، وخاصة بعد اختلال تلك الموازين إثر سقوط بغداد في التاسع من نيسان (أبريل) عام 2003 واشتداد العنف الناجم عن الحرب على الإرهاب، والآن تقع على عاتق السعودية ممارسة دور من يحمل ميزان القوة في منطقة الخليج خوفا من أطماع إيرانية باتت واضحة وسياسة إسرائيلية تعزز من حيث لا تحتسب موقف إيران الإقليمي والمستفز. وفي هذا السياق نشير للمنتدى الدولي الأول عن أمن الخليج الذي عقد في العاصمة الفرنسية في 15 من شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي والذي جاء بدعوة مشتركة من مركز الدراسات العربي (الأورومتوسّطي) ومن المعهد الأورومتوسّطي الذي يشرف عليه وزير الخارجيّة الفرنسي الأسبق "هيرفي دي شاريت". فللخليج العربي مكانة استراتيجية منحته أهمية خاصة نظرا لما يملك من طاقات وإمكانيات وموارد وضعت المنطقة برمتها تحت أنظار المجتمع الدولي لكنها في الوقت ذاته خلقت عددا من التحديات السياسة والأمنية والاقتصادية وغيرها التي تواجهها كل دولة بشكل منفرد ويواجهها الإقليم ككل. والدليل على ذلك التفاعلات الإقليمية التي أخذت طابعا عنيفا نذكر منها حرب العراق وإيران التي استمرت لمدة ثماني سنوات، وغزو العراق للكويت وما ترتب على ذلك من معادلات إقليمية ذات دلالة بالغة أهمها التقلب في أسعار النفط وهو السلعة الرئيسة لاقتصاديات منطقة الخليج العربي وما يترتب على ذلك من إرباكات اقتصادية. هناك تفهم لدى المتابعين والاستراتيجيين بأن ملف أمن الخليج لم يعد ملفا إقليميا بحتا وإنما بحاجة إلى تكاتف الجميع من أجل استقرار هذه المنطقة التي تحتوي على ثلثي احتياط النفط في العالم، فهذه المنطقة، على حد تعبير الدكتور صالح بكر الطيار ــــ مدير مركز الدراسات العرب الأوروبي ـــ عانت في السنوات الأخيرة وهي أحوج ما تكون لتعزيز دعائم الأمن بها حتى تكون داعما للسلم الدولي لا باعثا لعدم الاستقرار. فملف أمن الخليج يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى للتأسيس لحور عقلاني وبنّاء يمكن له أن يكون توطئة لتأسيس صيغ تفاهم تسهم في عملية ترسيخ السلم والأمن في المنطقة حتى تكون قاعدة للعلاقات الدولية في هذه المنطقة على وجه الخصوص.
ترأس الجلسة الأولى في المنتدى الجنرال طيّار برنارد نورلان رئيس هيئة دراسات الدفاع الوطني "فرنسا" وفيها عرج المتحدثون لدور دول مجلس التعاون الخليج ، والعراق، واليمن، إضافة لكل من إيران وتركيا في الحفاظ على أمن الخليج. وتمحور النقاش حول دور تركيا الجديد وهو دور إيجابي من منظور خليجي، غير أن الدكتور عبد الحسين شعبان الباحث المختصّ في الشؤون العراقيّة لفت انتباه الحاضرين والمشاركين لضرورة التحرك وبسرعة لمواجهة الأطماع الإسرائيلية وانعكاساتها، التي تهدّد أمن الخليج، وأمن منطقة الشرق الأوسط بأكملها. وربما تسمية الخليج بالعربي أو بالفارسي هي قضية إشكالية للجانبين العرب والفارسي، وكان هذا سببا لسجال كان طرفاه كل من الدكتور علي نوري زاده مدير مركز الدراسات العربيّة الإيرانيّة "لندن" والدكتور عبد الخالق عبد الله أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة الإمارات. فحتى مع تأكيد علي نوري زاده على أن خطاب إيران السياسي لا يبعث على الارتياح وخاصة عند العرب الخليجيين فإنه أصر على استخدام كلمة الخليج الفارس، وهو أمر رآه الآخرون أو لنقل بعضهم بمثابة توظيف سياسي مستفز للقفز عن التاريخ. ومع هذا التلاسن ـــ إن جاز التعبير ــــ فإن الجانب العربي أكد أن النظام العربي الرسمي لا ينظر لإيران كعدو وإنما سياسات إيران في المنطقة بشكل عام تؤسس لكي تتحول إيران إلى أحد مصادر التهديد التي يجب أن يتعامل معها العرب بما يضمن أمن خليجهم.
ويبدو من نافلة القول أن نسمع هذه الأيام مقولة إن الدول غير العربية مثل إيران وإسرائيل هي الدول التي تتنافس على الهيمنة على الإقليم، لكن هذا لا يلغي الدور الكبير الذي تضطلع به الدول الكبرى، حيث تؤثر الطريقة التي تتدخل بها في الإقليم على مسألة في غاية الأهمية وهي بناء التهديد في العقل العربي. لذلك عالجت الجلسة الثانية الدور المهم والمؤثر في أمن دول الخليج، وهو الدور الذي تمارسه كل من الولايات المتحدة والصين وأوروبا وروسيا. فالعالم، على حد تعبير أحد المشاركين، أصبح قرية كونية يصعب معها فصل الأقاليم والمناطق عن بعضها، حيث تظهر كل منطقة وكأنها جزيرة معزولة.
فالمصالح والمنافع متداخلة ومتشابكة، وهي تتطلب التعاون والتفاهم مع الأخذ في عين الاعتبار الخصوصية لكل منطقة وسيادة دولها وأمنها، واستقرار سكانها بعيداً عن أية وصاية وعن سياسة المحاور، وبمنأى عن مسك المنطقة في كمّاشة أسيرة للاقتصاص من هذه الدولة أو تلك. وفي هذا السياق، دعا عبد الله خليفة الشايجي دول المنطقة بشكل عام إلى الاهتمام بمسألة الانفتاح على كل القوى العالمية الفاعلة لخلق نوع من التوازن في العلاقات يسمح بالاستقرار والازدهار، وخاصة أن هناك تغيرا أيديولوجيا حدث في العقدين الماضيين، حيث لم تعد هناك فوارق أيديولوجية بين الدول العظمى التي باتت تتبنى ليبرالية مشابهة بعد أن انحسر النزاع العقائدي وهيمن تنافس المصالح وفق مبدأ الاقتصاد الحر. غير أن القضية الأهم التي يمكن لها أن تحدث انقلابا حقيقيا في موازين القوى في منطقة الخليج هي في حال تمكن إيران من إنتاج سلاح نووي وهو أمر سيؤذن بسباق تسلح في المنطقة سيكون مكلفا أولا وقد يؤسس لحالة من عدم الاستقرار التي تجلب تدخلات خارجية لا ترغبها الأنظمة السياسية في المنطقة بشكل عام. لذلك يطرح عادة مخرجا من هذه المعضلة بالتركيز على ضرورة أن يكون هناك شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل، وهو أمر ربما صعب التحقيق نظرا لموقف إسرائيل من معاهدة حظر انتشار الأسلحة الذرية التي لم توقع عليها إلى الآن. ونظرا لأن هاجس الأمن الإسرائيلي عال ولا يمكن للإسرائيليين الوثوق بأن نظاما إقليميا أو دوليا عندما يتعلق الأمر بتجريدها من إمكانياتها النووية، نجد من بين الإيرانيين من يفهم مقولة شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل تعبيرا مخففا لتجريد وحرمان إيران من قدرات نووية تسعى لامتلاكها بوتيرة ثابتة.
هناك بالفعل تأثر للمشاريع النووية على أمن الخليج وخاصة إذا ما تمكنت إيران من أن تكون الدولة الشرق أوسطية الثانية بعد إسرائيل في امتلاك أسلحة ذرية. لكن لا بد هنا من الإشارة إلى غياب البعد العربي وهو الأمر الذي أكد عليه سفير الجامعة العربية في باريس ومساعد وزير الخارجية المصرية الأسبق السفير عبد الله الأشعل الذي اعتبر أن غياب البعد العربي هو أصل الأزمة والمعضلة في الخليج وسمح في الوقت ذاته بأن تكون المنطقة عرضة لتجاذب إسرائيلي إيراني. وبهذا المعنى تسعى كل من إسرائيل وإيران إلى استغلال حالة الفراغ القائمة التي تكرست بغياب العراق المؤثر والانكشاف الاستراتيجي العربي الكبير في المنطقة. فلا يمكن النظر للمشروع الإيراني أو الإسرائيلي إلا من خلال كونهما مشاريع تتنافس ولا تتقدم إلا على جثة العالم العربي، وهن يرى الأشعل أن هناك حاجة لإجراء حوار عربي إيراني خدمة للمصالح المشتركة التي من ضمنها أمن واستقرار الخليج. فما من شك أن الخطر الأكبر على المنطقة برمتها يتأتى من السياسات الإسرائيلية ورفض تل أبيب المضي قدما نحو سلام عادل وشامل يؤدي إلى حلحلة الأزمات الأخرى، لهذا هناك من بين العرب من يرى ضرورة التنبه للخطر الإسرائيلي والعمل على ترويض إيران من خلال إيجاد صيغ للتفاهم معها لأنها قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، فتعزيز الثقة مع إيران يمكن له أن يؤدي إلى إبعاد التهديد الإيراني أو منع تكوينه في الدرجة الأولى.
توصيات المنتدى تستحق التأمل والتفكير إن كانت هناك نية جدية عند جميع الأطراف بضرورة العمل على خلق مناخات الأمن والاستقرار الإقليمي وخاصة في منطقة الخليج. وأهم هذه التوصيات هو الاتفاق على ضرورة الدعوة للحوار وتعزيزه حتى تضعف أجواء التشنج والتوتر، فالاستمرار بالحالة الحالية لن يفضي إلا إلى صدام لا نعرف كيف سيربح أي من المتصادمين في وقت على الدولة يقع عاتق خلق ظروف ومناخات الازدهار الاقتصادي. وهذا الأمر لا يحدث من دون العمل على تعزيز مفهوم الحوار الجاد وليس الحوار لشراء الوقت وفرض مزيد من الحقائق حتى يسلم بها الطرف الآخر. وعلى إيران أن تتفهم أنها في حاجة أيضا للاعتراف بدورها، لكن هذا الدور أصبح يحوم حوله الكثير من الشكوك بعد أن تبين للقاصي والداني أن إيران تستخدم وتمسك بأوراق إقليمية لتحسين موقفها التفاوضي مع الغرب وتحديدا مع الولايات المتحدة.
وقد تحسن إيران صنعا إن هي أبدت استعدادا لمناقشة احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، وهي جزر إماراتية حسب الموقف العربي ولا يجوز لإيران الاستمرار في احتلالها والادعاء في الوقت نفسه أنها تتحرك بنوايا حسنة تجاه العرب في الخليج. كما أن هناك توصية مهمة تتعلق بضرورة تفهم مبدأ المشاركة في بناء منظومة أمنية إقليمية يشارك بها الجميع بشكل يكفل تعزيز الاستقرار وبعيدا عن مفاهيم التبعية والهيمنة أو التفرد. وربما يتطلب تحقيق هذا الأمر بناء توازنات إقليمية وهي توازنات لا تتم إلا من خلال الانفتاح على كل القوى العظمى التي لها مصالح في الإقليم، فهذه الدول لم تعد في موقف عداء بعضها من بعض نظرا لغياب العامل الأيديولوجي في الصراع وخاصة بعد أن انتهجت هذه الدول جميعها ليبرالية تستند على اقتصاد السوق.
باختصار، كان المنتدى شاملا لكل المواضيع التي تشكل نقاط توتر بين المكونات المختلفة لإقليم الخليج نفسه، هناك معاناة تتعلق بالأمن بدأت ملامحها تزداد مع اشتداد الحرب على الإرهاب وبعد تغيير نظام الحكم في العراق. فهناك ضرورة لفهم كيف يمكن بناء منظومة أمنية لا تستند إلى القوة الخشنة فقط وإنما عناصر من القوة الناعمة التي تعلّي من قيم التسامح والتعاون على حساب التنافر والتنازع. لكن لا يمكن لدول المنطقة الانتصار لمنطق التعاون إن بقيت السياسات الإسرائيلية هي العامل خلف المزيد من التطرف، فرفض إسرائيل لمنطق السلام هو المسؤول عن استمرار حالة من الاستعصاء الاستراتيجي، فالتنظيمات التي توظف العنف سبيلا لتحقيق أهدافها السياسية تستغل استمرار الصراع لتجنيد عدد أكبر من المتطوعين وتستفيد من الحالة في حرب الأفكار. كما أننا لا يمكن أن ننسى كيف أن استمرار الصراع بين العرب وإسرائيل يقدم خدمة جليلة للاستراتيجية الإيرانية التي توظف هي الأخرى القضية الفلسطينية كجزء من استراتيجيتها الإقليمية الشاملة في حشد التأييد ودفع الأذى عنها وتسريع تحقيق مشاريع لن تكون إلا مصدر توتر إضافي في الإقليم.