الخليج .. الإصلاح التربوي مرتبط بالإصلاح الشامل وتغيير الثقافة المجتمعية
في كانون الأول (ديسمبر) 1998 في أبو ظبي اعتمد قادة دول مجلس التعاون العربي "استراتيجية التنمية الشاملة بعيدة المدى لدول مجلس التعاون (2000 ــ 2025)"، والتي أكدت على أن "من أبرز التحديات التي تعيشها مسيرة التنمية الوطنية بدرجة أو بأخرى ولم تتخلص منها.. استمرار هيمنة الموارد الأحادية على مصادر توليد الدخل، وهو ما يعمل على تضييق خيارات التنمية وفرص الكسب".
آنذاك أكدت الاستراتيجية على ارتباط التحديات كافة بـ "اختلالات بيّنة في التركيبة السكانية بما تتضمنه من تأثيرات سلبية في التجانس الاجتماعي وبواعث المواطنة والولاء". ومع أن استشعار القادة للخطر السكاني والتعليمي وأثرهما في عملية التحديث والتنمية كان يمثل ذروة العناية الرسمية بأزمة التعليم والتنمية والسكان، إلا أن تلك الالتفاتة لم تكن منعزلة عن مسار فكري لطالما نبه إليه المفكرون والمثقفون في دول الخليج العربي. وقد جاءت الاستراتجية المشار إليها أعلاه على موضوع التعليم في البند السادس الذي ركز على "بناء قاعدة علمية ـ تقنية ذاتية متطورة" وفي البند السابع الذي نص على ضرورة "إصلاح التعليم وربطه بمتطلبات التنمية". ولم يفصل البند الثامن عنها أمر الثقافة فنص على أهمية "توفير البيئة الملائمة لتنمية ثقافة اجتماعية مستمرة".
النتيجة التي توصل إليها قادة دول الخليج لا تنفصل عن الأسباب، والمقدمات التي زرعت ونمت فيها، عملية التحديث والإصلاح، والتي تحتاج اليوم إلى إعادة انبعاث، والتي لا يغادرها أمر التعليم، وغالبا لم تخل طروحات مثقفي دول الخليج العربي من العناية بأمر التربية والتعليم، لا بل أعطي التعليم نصيبا موازيا للإصلاح السياسي أو الاقتصادي، وهنا يرى المفكر القطري علي خليفة الكواري أن أجندة الإصلاح العربي تتمثل اليوم في ستة بنود بينها قواسم مشتركة بين الأفراد والجماعات التي تنشد التغيير في المنطقة، وتحظى بقبول عام مشترك من دعاة الإصلاح عامة وتنعكس في عرائضهم وخطاباتهم ومجمل أدبياتهم وهذه البنود هي:
1. تصحيح العلاقة بين السلطة والمجتمع.
2. تأسيس نظم رسمية للتأمينات ضد البطالة ولضمان حق التعليم والعلاج.
3. إصلاح الخلل السكاني.
4. إصلاح الخلل الإنتاجي.
5. علاج الخلل الأمني في إطار اندماج أقطار مجلس التعاون.
6. مطلب الديمقراطية وحقوق الإنسان وتفعيل دور المجتمع المدني.
وإذا ما دققنا فنجد أن أمر التعليم جاء في البند الثاني، وقد أعطاه الكواري منزلة موازية لمنزلة التأمين الطبي والتأمين ضد البطالة وخلافه، وهو في ذلك يحاول رفع نصاب موقعية التعليم في التحديث والإصلاح، بما يتعدى الوصف المبسط الدارج على أنه تعلم وتربية ليصبح التعليم محركا فاعلا من محركات الإصلاح وشرطا أساسيا له.
ويقف محمد المسفر عند حالة التعليم العربي عامة والخليج خاصة، ويقول معلقا في ندوة عقدت بعد صدور تقرير في تقرير التنمية الإنسانية العربية عام 2002: ".. الملاحظ أن التعليم هو الذي يصنع البطالة، فالخطط التعليمية لا تأخذ في اعتبارها طبيعة التنمية وتطورات سوق العمل العربية، إضافة إلى أن التعليم لم يسهم بشكل فعال في بناء مشروع حضاري اعتدنا أن نسميه مشروع النهضة العربية، فالتعليم مرة أخرى وبكل أسف لم يسهم بشكل فعال في تكوين المهارات والتخصصات خاصة العلمية الدقيقة التي تحتاج إليها التنمية المعاصرة في كثير من البلدان العربية. إضافة إلى ما سبق يلاحظ أن التعليم العالي في البلاد العربية لا يزال تقليدياً نمطياً لم يشمل نسبة كبيرة من الذين هم في سن التعليم العالي (18 ـ 24 سنة) وهي نسبة منخفضة في معظم البلاد العربية لا تزيد في أحسن الأحوال على 13 في المائة، بينما هذه النسبة تصل في كوريا الجنوبية إلى 65 في المائة، علماً بأنها ـ أي كوريا الجنوبية ـ بدأت نموها متأخرة عن كثير من البلاد العربية، وهي الآن تسبق البلاد العربية بمراحل، هذا ويُضاف إلى ما سبق أن نسبة الاستثمار في البحث العلمي لا تزال أيضاً في معظم البلاد العربية ضعيفة جداً، فهي لا تزيد على 0.05 في المائة من الميزانية العامة، ربما باستثناء مصر والأردن التي ترتفع فيها هذه النسبة لتصل إلى 1 في المائة.
ونجد علي فخرو المثقف والتربوي ووزير التربية الأسبق في البحرين يقف مطولا عند أمر التعليم، في محاولة لمواجهة الرتق الكبير الذي أصاب مؤسسات التعليم العربي. وفخرو ينتمي إلى جيل الحركة الثقافية العربية القومية، التي وإن شاركت في الإدارة العامة إلا أنها مارست نقدا مباشرا وصريحا لمسارات التنمية والإصلاح، وما يميز فخرو في معاينته لمشهد التربية والتعليم هو المطالبة بحزمة واضحة من الإصلاح تتجاوز ما حدث أو ما قيل أنه إصلاح، وهو يربط الإصلاح التربوي والتعليمي بالإصلاح الشامل، فهو يؤكد على "عدم وجود إصلاح حقيقي جذري في حقل فرعي دون غيره، وعليه فإنه لا يمكن إحداث هذا الإصلاح في حقل التعليم دون غيره من الحقول الأخرى كالحقل الثقافي والسياسي والاقتصادي، ولئن حدث فسيكون حتما إصلاحا ناقصا قد يتعرض لانتكاسات بين الحين والآخر. وأكد على ضرورة الإصلاح الشامل والمستمر في شؤون الحياة".
ولا يقف علي فخرو عند أرقام التقارير التنموية وحسب، بل يتجاوزها إلى ما هو أهم، فيشير لإشكالين أساسيين يحدان من تحقيق الإصلاح، وهما "إشكالية التربية والتعليم، والتي تتعلق بعدم وجود فلسفة تربوية واضحة لدى المؤسسات التعليمية، وثانيا انحصار أهداف المؤسسات التربوية والتعليمية في تخريج أناس لسوق العمل على حساب التنمية الفكرية والروحية للإنسان، وذلك مما يحول دون خلق إنسان مرن قادر على إحداث تغيير في نفسه قبل مجتمعه".
فخرو يرى أن المعلم هو حجر الزاوية في إصلاح العملية التربوية بغض النظر عن مستوى المناهج ذاتها، وهو يطالب باختيار المعلمين على أسس وقواعد سليمة، بداية من الابتعاث للجامعة وانتهاءً بإعدادهم وتدريبهم من قبل متخصصين بشروط وضوابط، كي لا تكون عملية التوظيف في هذا الحقل عملية سائبة تنعكس فيها أهداف التعليم؛ فتحول المؤسسة التربوية من أداة تغيير لأداة تمرير المعلومات من جيل إلى جيل.
الركن الثاني في الإصلاح التربوي والتعليمي هو المدرسة، التي يراها الخلية التربوية في المجتمع والمدرسة كي تؤدي دورها المطلوب منها، فإنه لا بد لها من الاستقلالية المالية والإدارية، ولا بد أن تتم إدارتها من قبل مجلس كامل وليس مجرد مدير، على أن يمثل المعلمون في المجلس ما نسبته 50 في المائة يتم انتخابهم من قبل المعلمين أنفسهم، لتحقيق الديمقراطية المطلوبة في المؤسسة التعليمية والتي لا يمكن أن تتوافر فيها بيئة صحية دونها لممارسة التعليم..." ويتابع فخرو حديثه عن إدارة الصف والمناهج وإمكانات المدارس... إلخ.
المرحوم المثقف والأديب والوزير السعودي غازي القصيبي كان قد أسهم أيضا في الجدل حول إصلاح التعليم وجهاز التربية، فقد كتب في صحيفة "الوطن" السعودية (الثلاثاء 28 رجب 1430 ـ 21 تموز (يوليو) 2009 ) مقالا بعنوان:" امنعوا هذا الكتاب الخطر!". والمقال كان بمثابة الترويج لأفكار سعودية من الداخل جاءت في كتاب يعرض بشكل نقدي لمسار التعليم في السعودية. والكتاب هو للدكتور أحمد العيسى وعنوانه "إصلاح التعليم في السعودية بين غياب الرؤية السياسية وتوجس الثقافة الدينية وعجز الإدارة التربوية".
القصيبي كان صريحا وواضحا وناصحا للمعنيين بصناعة القرار السعودي بضرورة الإصلاح في الجهاز التعليمي. وهو يؤكد على أن التعليم يعد أم المشكلات، قائلا: ".. ولو استعرضنا المشكلات الكبرى التي يعانيها المجتمع السعودي اليوم، الفقر والبطالة وضعف الإنتاجية وترهل الأداء في القطاعين العام والخاص، لوجدناها تنبع مباشرة من النظام التعليمي، ويستحيل حلها دون إصلاحات حقيقية في هذا النظام". والقصيبي لا يرى إمكانية للإصلاح التربوي دون الإصلاح في العقليات، أو تغيرها، فنجده يقرر بالقول في مقالته المشار إليها قائلا: "من العسير تصور نظام تعليمي يطور المهارات الصناعية في مجتمع زراعي بدائي، ومن المستحيل أن يستطيع مجتمع تملأ عقوله الخرافات إبداع نظام تعليمي معاصر يشجع العلم وينبذ الخرافة، هذا الارتباط الوثيق بين النظام التعليمي وبعض القيم السائدة في المجتمع هو الذي يخلق في كثير من الأذهان الانطباع أن أي محاولة لتغيير نظام التعليم هي عدوان على ثوابت المجتمع، وهذا الارتباط هو الذي يشكل الفارق الهائل بين إعادة هيكلة قطاع الكهرباء أو النقل أو الصحة وإعادة هيكلة التعليم".
في محصلة الأمر نجد أن مثقفي دول الخليج العربي كانوا على وعي بخطورة تردي جهاز التربية والتعليم وأهمية إصلاحه، وهو ما يتفق مع معطيات تقرير التنمية الإنسانية العربي عام 2002 والذي تناول جملة من الصعوبات والتحديات التي تواجه التعليم العربي في بداية القرن الـ 21، ويمكن إجمالها باختصار شديد في التعليم قبل المدرسي؛ والالتحاق بالتعليم النظامي والإنفاق على التعليم، من حيث إيجاد مصادر التمويل، والعدالة والقدرة على تحمل تكاليف التعليم، وأخيرا جودة التعليم وتحقيق إنتاج المعرفة.