من تونس: أولويات

لأن الدولار لم يكن يستخدم في أيام الإمبراطورية الرومانية، كان قياس متوسط الأجر اليومي للعامل يعتمد على مادة الغذاء الأساسية لشعوب المنطقة، أي القمح، حيث يصل متوسط الأجر إلى حدود 12 كيلو جراما وهو الأعلى من بين الأجور في المناطق المحيطة في عز أيام الإمبراطورية.
حتى أرسطو وأفلاطون لن يستطيعا استيعاب المصطلحات الاقتصادية التي نطلقها على مدار الساعة للدلالة على تحسن أو سوء الأوضاع، مثل مستويات النمو والبطالة وثقة المستهلكين. الأهمية في تلك المرحلة كانت تنصب على تأمين حاجة كل فرد من القمح، وهي الترجمة الفعلية بأن الأوضاع بخير. ولا يهم ساعتها أن يكون لديهم مؤشر لثقة المستهلك لأن ذلك المستهلك خياره الأول والأخير هو تأمين حاجاته اليومية من القمح وهو المؤشر الأمثل للدلالة على الثقة بالأوضاع الاقتصادية لبلاده.
التركيز على بيانات بعينها دون أخرى قد يسبب الكثير من الإشكاليات والمغالطات، وهذا ما يقودنا إلى البيانات التي تصف أحوال الاقتصاد في تونس فنسبة النمو في العام الماضي فوق 4 في المائة وهو رقم من المفترض أن يكون إيجابيا كما يخبرنا به الاختصاصيون والمعنيون من المؤسسات الدولية. كما أن تلك المنظمات أطلقت العديد من إشارات التحذير في فشل بعض المعالجات الاقتصادية للحكومة التونسية. وإن كان أهمها الارتباط الشديد للاقتصاد مع الاتحاد الأوروبي، الذي يستوعب 70 في المائة من صادرات تونس وهي صادرات غذائية ومعدنية نصف مصنعة، حيث أشارت البيانات إلى أن ما سيحد نمو الصادرات التونسية والعائدات السياحية والمالية الوافدة هو مدى قدرة الاقتصاد الأوروبي على التعافي من أزمته الحالية.
لكن صندوق النقد لم يراجع توصياته السابقة التي أشاد بها، حيث أعلن قبل عشر سنوات عن رضاه التام لاتباع تونس التوصيات فيما يتعلق بنشر ثقافة الإنتاج للتصدير وهذا ما دفع الحكومة للتركيز على الزراعة التصديرية للسوق الأوروبية وهو الأمر الذي جعل اقتصاد البلاد هشا لارتباطه بأوروبا ومشاكلها الحالية. باعتبار أن تونس جعلت القطاع الزراعي يستوعب نصف طاقة العمل وأي تأثير فيه سيؤدي إلى تقليص في أعداد المشتغلين في القطاع. وقد توزعت الأعمال في تونس بين صناعات لا تحتاج إلى مهارات وبأعداد كبيرة وأخرى تحتاج إلى مهارات عالية لكن بأعداد قليلة. وبذلك لم يستطع خريجو الجامعات من الحصول على عمل. وهو الأمر الذي حذر منه صندوق النقد الدولي، مشكورا وابتدع حلولا سحرية من قبيل ضرورة أن تزيد الحكومة من الضرائب وتقلص المصاريف العمومية (وهذا ما تم تنفيذه دون تباطؤ وذهبت الأموال إلى خزائن مجهولة)، إضافة إلى الضغط على كتلة الأجور والتخفيض من الدعم الحكومي للمواد الغذائية والطاقة.
وبالعودة للحسابات البسيطة التي تقول إن المعدل السنوي لاستهلاك المواطن التونسي من الحبوب يصل إلى 258 كيلو جراما من الحبوب بينما يستهلك الفرد الأوروبي 130 كيلو جراما، عند معرفة ما هو أساسي يسهل تحديد الأولويات الأخرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي