التفسير الاقتصادي لانتفاضة تونس

تمتعت تونس بمعدلات نمو اقتصادي لا بأس بها خلال السنوات القليلة الماضية، من ثم فإن مؤشرات مهمة تستخدم عادة لقياس تحسن الوضع الاقتصادي، كمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، كانت جميعها تحقق معدلات نمو إيجابية، ما أعطى انطباعاً بأن العوامل الاقتصادية لا يمكن أن تكون محركاً لانتفاضة شعبية. إلا أن ما لم تظهره هذه المؤشرات الإيجابية هو حقيقة الوضع المعيشي للمواطن، الذي لا تعكسه هذه المؤشرات الكلية إنما يعكسه مفهوم أشمل وأوسع, وهو مفهوم التنمية الاقتصادية. فالاقتصاديون أدركوا منذ عدة عقود قصور هذه المقاييس الكلية في إعطاء تصور دقيق لحقيقة التحسن في مستوى معيشة أفراد المجتمع في الدول النامية، كونها لا تعطي مؤشرا عن مدى عدالة توزيع الدخل في المجتمع، ولا تقول لنا إن كانت مشكلة الفقر في انحسار أو تزايد، كما أن تحقيق معدلات نمو إيجابية لا يعني بالضرورة أن تكون معدلات البطالة في تراجع.
وواقع التنمية في معظم الدول النامية خلال العقود الأخيرة يظهر أنه حتى عندما يكون الأداء الاقتصادي في هذه البلدان جيدا نسبيا فإن الشريحة المستفيدة تكون في الغالب شريحة صغيرة في المجتمع, وتبقى الشريحة الواسعة خارج دائرة الاستفادة، بسبب غياب التخطيط الاقتصادي السليم واستشراء الفساد وغياب مؤسسات المجتمع المدني المستقلة، وعدم وجود فصل حقيقي في السلطات، وبقاء الإعلام تحت مظلة السلطة، بالتالي حتى في الحالات التي يكون الأداء الاقتصادي في تحسن نجد أن معظم هذه البلدان تعاني في الوقت نفسه ترديا في عدالة توزيع الدخل، وقدرة محدودة لاقتصاداتها على إيجاد ما يكفي من فرص العمل، ما يتسبب في اتساع مستمر في دائرة الفقر، بل إنه في أحيان كثيرة يتسبب هذا النمو الاقتصادي في ضغوط تضخمية تجعل شريحة واسعة في المجتمع ليست فقط غير مستفيدة, إنما حتى متضررة، باعتبار أن مستويات معيشتها تتراجع بسبب الانخفاض المستمر في دخلها الحقيقي مع ارتفاع معدلات التضخم. أي أن هذا التحسن الظاهري في الوضع الاقتصادي، المثير لإعجاب وتقدير كل من لا يقف على تفاصيله، قد يخفي في ثناياه بركاناً قابلا للثورة في أي لحظة سيفشل في توقعه كل من لا يدرك الفرق بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية.
ونموذج النمو والتنمية الاقتصادية في سنغافورة مثال رائع للإدارة الحصيفة الواعية تماماً لأهمية أن يكون النمو الاقتصادي مسهماً في تحقيق تنمية شاملة، تحسن من مستويات المعيشة لكل أفراد المجتمع وليس فقط فئة صغيرة قريبة من السلطة مستفيدة على حساب بقية المجتمع, ما يفقد النظام السياسي شرعيته ويؤجج بذور الرغبة الجامحة في التغيير. فعندما فاز حزب الشعب السنغافوري في انتخابات عام 1959 أدركت قيادات الحزب وعلى رأسهم الرجل العظيم وأبرز المخططين الاقتصاديين في القرن العشرين لي كوان يو أن فوز الحزب غير المتوقع والمفاجئ في هذه الانتخابات يعني أن بقاءه في الحكم سيكون مرتبطا بقدرته على تقديم خدمات أساسية عالية النوعية، كخدمات التعليم والإسكان والصحة، وأن شرعية حكمه مرهونة بقدرته على جعل سنغافورة بلدا مزدهرا اقتصاديا ومستقرا سياسيا، تتحسن معه الأوضاع المعيشية للسكان بشكل واضح مستمر، لذا فقد تشكلت فلسفة حكم تركز على النمو الاقتصادي وإحداث تنمية شاملة يتحسن معها مستوى معيشة كل فرد في سنغافورة دون استثناء.
لذا فقد وضعت خطط دقيقة محكمة نفذت بأعلى مستوى من الحزم،، سخرت لها كل إمكانات الدولة البشرية والمادية لإحداث نقلة في حياة مواطنيها لتحقيق ذلك، فلم يقبل مطلقاً أي أداء غير متميز من أي مسؤول أو جهاز في الدولة. من ثم وبعد أن كانت سنغافورة دولة تعاني ترديا في مستويات الدخل الفردي والفقر والبطالة والصراعات العرقية شهدت نهضة شاملة متواصلة في كل جوانب الحياة, بحيث أصبحت في سنين قليلة من بين أبرز دول العالم, ليس فقط من حيث متوسط دخل الفرد, إنما أيضاً في مستوى الرضا الشعبي عن أداء الحكومة، إلى حد أن ما يزيد على نصف أعضاء البرلمان في هذه الدولة التي تتمتع بديمقراطية حقيقية نزيهة لا يتقدم أحد لمنافستهم على مقاعدهم، بسبب الرضاء الشعبي التام عن أداء الحكومة وممثلي حزب الشعب الحاكم في البرلمان. من ثم فإن هذا الحزب الذي وصل إلى الحكم خائفاً من أن يخرج من الحكم في أول انتخابات تالية بقي في سدة الحكم لما يزيد على 50 عاماً بفضل الشرعية التي اكتسبها من خلال النجاح المبهر والمستمر في سياساته الاقتصادية والاجتماعية التي أكسبته رضاً عاماً جعله يحتفظ بالسلطة كل هذا الوقت في دولة ديمقراطية يستطيع مواطنوها أن يخرجوه من الحكم متى شاءوا.
من ثم فإن الحكومات العربية ليست مطالبة باستيعاب ما حدث في تونس, إنما باستيعاب ما حدث في سنغافورة، فمن يركز على ما حدث في تونس سيهتم فقط بتحقيق رضا شعبي مؤقت، من خلال إجراءات ستضر على الأرجح بأداء الاقتصاد على مدى أطول، أما من يحاول استيعاب درس سنغافورة فسيهتم بخلق بيئة ترفع كفاءة أداء القطاع الحكومي وتزيد من قدرة الاقتصاد على خلق الوظائف، وتضع سياسات تستهدف تحقيق عدالة توزيع الدخل ومحاربة الفقر في المجتمع، وإن كانت دولة مفتقرة إلى الموارد استطاعت أن تحدث هذه النقلة النوعية في حياة مواطنيها، بفضل التخطيط السليم ونزاهة وكفاءة الحكم, فإن من يملك الموارد أقدر على تحقيق كل ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي