منحة أرض

على الرغم من كثرة ما عرض عليه من فرص وظيفية مغرية جدا، إلا أنه لم يتردد أبدا في قبول العرض المقدم له من قبل عميد الكلية بالبقاء في الكلية كمعيد. قبل بالعرض ولم يسأل حتى عن الراتب أو إن كانت هناك مزايا سيحصل عليها كأستاذ في الجامعة. كان فقط يريد أن يدرس وأن يواصل طريقه لنيل درجة الدكتوراه, فهو يريد أن يبقى في الجامعة حتى سن التقاعد, فهو يعشق الكتب ويحب البحث والتدريس. كان له أصحاب تفرقوا بين الوظائف الحكومية والقطاع الخاص، وحاول بعضهم أن يثنيه عن قراره بالبقاء في الجامعة لأنه قرار واضحة نهاياته, راتب هزيل، والعيش في شقة مدى الحياة، وحساب بنكي يعاني فقر دم مزمنا. حتى زوجته لم تكف عن إخباره بأحوال أصحابه الذين تخرجوا معه, فكلهم بلا استثناء صارت لهم بيوت وحياة مرفهة ورحلات صيفية إلى أوروبا وغيرها, أما هو فكان يمنيها بالمستقبل وبحال أفضل بعد انتهاء الدراسة والعودة والاستقرار كأستاذ جامعي, كان يقرأ في عينيها ما يثير عنده القلق في بعض الأحيان, كان يؤمن بسلامة خياره وقناعته بالطريق الذي يسير فيه، ولكن ما ذنب زوجته وأولاده أن يحرموا ويعانوا نتيجة لما هو يريده ويختار.
أخيرا عاد ليدرس في الفصول التي درس فيها نفسها, كانت الصدمة الأولى هي البقاء ثلاثة أشهر وهو يبحث عن مكتب يأوي إليه ويحتضن كتبه وأوراقه. ما أكثر ما جاء به من كتب، اضطر إلى تخزين أكثرها في الشقة على الرغم من اعتراض زوجته. كان الرتب قليلا جدا، وكان يتفادى الإفصاح عنه حتى لزوجته لأنه عندما سمع عن رواتب أصحابه اكتشف أن راتبه فعلا فضيحة، وسيكون فعلا صدمة لزوجته. ومرت سنوات وصارت الأحلام الواحد منها تلو الآخر يتوارى بعيدا عنه، مخلفا ورائه أسئلة حائرة وحسرات مكبوتة. فكيف له أن يحلم ببيت وهو ليس عنده ما يكفي لشراء حتى ربع أرض, أما السفر فصار يعوض نفسه وأهله عنه بالسفر إلى الماضي من خلال تقليب صور من سفراته القليلة والقديمة أثناء مرحلة الدراسة. كل شيء بات يذكره بأنه قد أخطأ في قراره, على الأقل من وجهة نظر الدائرة القريبة منه ومنهم زوجته وإلى حد ما أمه العجوز التي تكرر عليه بلا ملل بأنها تتمنى أن تراه في بيته الخاص به.
ظلت الحياة رتيبة ولولا حبه واستمتاعه بالقراءة والكتابة والبحث لصارت الحياة عنده بلا طعم ولا لون ولا رائحة. وكان يتمنى البقاء طوال الوقت في مكتبه لأن وجوده في البيت كان يعيده جبرا إلى التفكير بأحواله وهو يرى نفسه وقد تجاوز الخمسين عاما، وهو لا يملك أرضا ولا بيتا، وحتى السيارة صارت قديمة ولا يملك ما يكفي لاستبدالها. صار يتهرب أيضا من الذهاب إلى الاستراحة التي يجتمع فيها بأصحابه القدماء كل ليلة جمعة, فكل شيء في هذا اللقاء منغص له بمعنى الكلمة, كان يحاول ألا يقف بسيارته إلى جنب السيارات الأخرى فهي بكل أحوالها لا تتناسب مع بقية السيارات, لا في الشكل ولا في الموديل, فكيف لسيارة عجوز هرمة أكل عليها الدهر وشرب، ألا تستحي من نفسها وتقف إلى جوار سيارات يحسبها الواحد من جمالها أنها في مسابقة ملكات جمال العالم. أما في الجلسة فكان يأخذ بالقول المعروف وهو السكوت من ذهب، ولعله هو الذهب الوحيد الذي كان يملكه، وغيره يملك الذهب الحقيقي. في مرة من المرات اقترح أحد الأصحاب أن يجمعوا له مبلغا من المال ليشترك معهم، ويشتري على الأقل سهما واحدا في المساهمة الجديدة التي كانوا يتباهون بينهم بعدد الأسهم التي سيشترونها، ولهم مثلها وأكثر في أماكن أخرى. لم يقبل الاقتراح وأصر على عدم القبول، وكيف له أن يقبل وهو الذي طالما يعلن بوضوح أن على الإنسان أن يعيش وفق قدراته، وليس اللجوء إلى الدين إلا مخالفة صريحة وواضحة لهذا المبدأ. كم وكم أراد وفي مرات عديدة أن يجعل من الحديث في الجلسة حديثا علميا أو ثقافيا, عما هو جديد في مجال تخصصه العلمي، أو على الأقل عن موضوع ثقافي أو قضية اجتماعية، وهو كان حتى بشهادة غيره مثقفا متابعا وعنده خبرة في تشخيص الكثير من جوانب الخلل في ثقافة المجتمع عموما، ولكن كانت النتيجة هي الفشل والخيبة, ليبقى أصحابه هم فرسان الميدان في الحديث والمناقشة, ويظل دوره كما كان مستمعا، لأن كل حديثهم هو عن تطلعاتهم في الشراء والبيع، حتى صار يعتقد بأن الجميع في هذا البلد هم تجار عقار, فهو لا يفهم كيف يهضم الناس هذه الأسعار الواصلة إلى السماء وعندنا كل هذه الصحراء الممتدة.
في صبيحة يوم من الأيام، وعلى مقربة من مكتبه، سمع وقع خطوات زميله في المكتب، ولما دخل الاثنان المكتب، وقبل أن يجلس على كرسيه, قال له زميله, لقد وصلت المعاملة إلى الأمانة وعليك المراجعة لتسلم ورقة الإشعار الخاص بمنحة الأرض. أخيرا وصلت بعد أن ضاعت وأحس بأن ضياعها هو نهاية مبكرة لحلم امتلاك أرض هي بداية لمشروع بيت ملك. ذهب للأمانة وتسلّم الوصل، وكان اسمه مكتوبا بشكل واضح، وإلى جانب الاسم كتبت كتابة مساحة الأرض الممنوحة ورقم المعاملة. استبشر بورقة الإيصال التي كانت أبعادها خمسة سنتيمترات في خمسة سنتيمترات. صار يفكر ويفكر كيف يبشر زوجته بالأمر, لقد اقترب الحلم وأوشك أن يصير حقيقة. ولم تخذله زوجته هذه المرة وشاركته بحرارة فرحة الحصول على أمل بامتلاك أرض. وصار كل يوم يناقشها بعد أن يناقش الأمر مع نفسه في كيفية تخطيط الأرض, الأرض كبيرة عليه ولابد من تخصيص الجزء الأكبر منها للأولاد حتى يجنبهم ما مر به من معاناة وطول انتظار. لقد تعبت الورقة المسكينة فعلا من كثرة المرات التي يفردها أمامه وأمام زوجته, لا يدري حتى هو نفسه لماذا يفرد هذه الورقة المسكينة التي اصفّر لونها كلما أراد أن يغوص في أحلامه. وبالتدريج بدأ يضعف الأمل بأن تتحول هذه الورقة الصغيرة إلى أرض حقيقية، وصار لا يحملها في جيبه كما هو الحال في البداية, عندها كان يخاف بأن يأتيه اتصال يدعوه لتسلّم الأرض وهو لا يريد أن تضيع منه حتى ساعة أو أقل للذهاب إلى البيت والبحث عنها. وفعلا في أحد الأيام سمع بأن هناك خبرا بضرورة الذهاب لتسلّم الأرض وذهب، ولكن ليكتشف أنه ليس من المعنيين بالموضوع، ولكنه عاد بغير الورقة الأصلية, فالموظف المختص ربما رأف بحال ورقته وكيف أنها ذبلت واصفرت وهي في عز شبابها, فهي ما زالت صبية عمرها 15 عاما, إنه هو المسؤول عن هذه الشيخوخة المبكرة فهو كان يحمّلها من أحلامه أكبر ما تستطيع حمله, طلب منه الموظف أن ينتظر قليلا وجاءه بورقة جديدة وهذه المرة مساحتها 100 سنتميترات مربعة, خرج وهو يشعر بالفرح لهذا التغيير فلعله خطوة إلى الأمام في تحول المنحة من الورق إلى أرض الواقع. ومضت الأيام وبدأت الورقة الجديدة هي الأخرى تصفر وتذبل وصار يخفيها تحت الأوراق، وكلما ظهرت أمامه عندما يقلب أوراقه صار يبعدها عن عينيه, فلم تعد عنده حلما بل صارت كابوسا تثير في نفسه الحزن والكآبة.
في أحد الأيام الشتوية التي احتجبت فيها الشمس وراء غيوم سوداء لكثرة ما تحمله من مطر، دخل البيت وعلامات الاستبشار بادية على وجهه, تفاءلت زوجته بما تراه من سرور واضح وقالت في نفسها لعله الفرج, لعله تسلّم صك الأرض الممنوحة. انتظرت بعد الغداء وسألته بكلام مقتضب ما الخبر. ارتاح لسؤالها لأنه كان يبحث عن طريقة ليفاتحها بالموضوع الذي شغله لمدة أسبوع كامل. لملم ما تبقى عنده من قوة وقال لها بصوت متقطع بأنه قرأ في الجرائد أن هناك حاجة إلى أراض لبناء مدارس ومستوصفات ومستشفيات، وأنه قرر وأن قراره هذا لا رجعة فيه بأن يتبرع بالأرض الممنوحة له على الورق لبناء مدرسة أو نصف مدرسة أو مستوصف. لم يكمل حديثه وزوجته واقفة وعلامات الغضب بادية ليس على وجهها فقط وإنما على جسمها كله, ثم صارت تبكي وهو يسمعها تقول بأنه لم يبق لها إلا هذا الحلم ولا تريد أن تتخلى عنه حتى تحمل إلى قبرها. كان يشرح لها بأنه قد قارب الـ 60 من عمره وأن الأولاد كبروا وأنه لم يعد يشعر أنه في حاجة إلى بيت أو أرض، وهو الذي كان يحلم بأن تكون له مشاريع خيرية وليس مشروع واحد، ولتكن هذه المنحة هي مشروعه الخيري في هذه الحياة والله كريم يقبل القليل من عباده. لم تقتنع زوجته بكل ما قاله من كلام يعتقد أنه كلام جميل ومنطقي، وهو يعرف أن غير الجميل فيه هو غياب البديل الذي يعيد الأمل لزوجته بأن يكون لها بيت ملك تستقبل فيه أهلها وبناتها وهي زوجة الدكتور الأستاذ في الجامعة. كان يعرف أنه من الصعب على الإنسان أن يفقد حتى الأمل في تحقيق ما يحلم به, ولكن بالنسبة له فقد تحول هذا الحلم إلى كابوس وهو لم يعد عنده من الصحة والعمر ما يكفي لأن يبقى في صحبة هذا الحلم الكابوس أكثر مما مضى. خرج من الغرفة وهو يردد بأنه مصمم على التبرع بالمنحة مهما كان الأمر. وآخر ما سمعه من زوجته أنها ستترك البيت إن فعل ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي